ملامح جدلية في فكر المعري – عقلانية خلاّقة تستقرئ الوجود

وفيق غريزي

كاتب و نـاقد لبناني

في قراءتنا لملامح الجدلية في فكر أبي العلاء المعري، لابد من الاستناد إلى الصياغة الحديثة للمنطق الجدلي، وإن كان ذلك فيه بعض التعسف، فإن كل دراسة منهجية لأثر من الآثار الإبداعية الإنسانية، لا تخلو من قدر من التعسف، وبخاصة إذا كانت الدراسة تطبق مناهج حديثة العهد على آثار أقدم منها. وكل منهج إنما هو طريقة في القراءة، أو التحليل، ولهذين مذاهب شتى تتقارب وتتباعد.

المنهج الجدلي

اتخذت كلمة جدل (ديالكتيك) أكثر من مدلول منذ أن ظهرت في لغة الفلسفة الإغريقية. لكن ما يعنينا، هو المدلول الحديث لهذه الكلمة، والذي اكتسبته على يد الفلاسفة الالمان. في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، عمانوئيل كانط وفيخته وشيلنغ وهيغل وكارل ماركس. واغتنى من ثم، عبر الأبحاث والمنجزات العلمية، خلال القرنين التاسع عشر والعشرين.
والجدل وفق الرؤية الحديثة يقول المؤلف: “هو المنهج المعرفي ـ المنطقي الذي ينظر الى الكون كوحدة واحدة مترابطة متفاعلة، يؤثر الكل في الجزء، ويؤثر الجزء في الكل، وهذه المنظومة الواحدة لا تعرف الثبات أو السكون فهي جياشة بالحركة، وفي حال من التغيير الشامل، منذ الأزل حتى الأبد”.
يرصد المنهج حركة الأشياء والظواهر في الواقع الموضوعي وما يتولد عنها، في العقل من مفاهيم، ويتتبع نشوءها وتطورها، كاشفاً عن التناقضات الداخلية التي تعتمد فيها، وتحفزها إلى التطور الصاعد من الأدنى إلى الأعلى، ومن الصور البسيطة إلى الصور المركبة المعقدة.
ومن المعروف أن الاتجاه الغالب في الفلسفة الإغريقية، هو أن العقل البشري قادر على معرفة الحقيقة، وإن ظهر من شكّك بقابلية العالم للمعرفة، كالسفطائي جورجياس والريبيين، وأبرزهم بيرون.
أما في الفكر الإسلامي فقد اتسمت بعض الأفكار المتعلقة بالمعرفة لدى الإمام الغزالي بالريبية أيضاً. وقد بعثت الريبية من جديد على يد الفيلسوف البريطاني ديفيد هيوم، الذي حاول أن يزعزع عدداً من المبادئ والمفاهيم الرئيسية التي تقوم عليها عملية المعرفة. كمبدأ السببية، في حين قسم الفيلسوف الألماني كانط الواقع إلى عالمين: عالم الظواهر، وعالم الجواهر، أو الأشياء في ذاتها. وذهب إلى ان المعرفة الحسية إنما تنصب على عالم الظواهر فحسب، بينما تبقى جواهر الأشياء عصية على المعرفة. ويشير المؤلف إلى ان الجدليين الكبار بعد كانط، وبخاصة هيغل وماركس، ذلك الفصل بين الجوهر والظاهرة، وأنكروا مقولة الشيء في ذاته، الذي تعجز المعرفة عن بلوغه، فالعالم قابل للمعرفة مبدئياً، وإن كانت عملية المعرفة سيرورة دينامية لا تبلغ غايتها، وإنما تقترب أكثر فأكثر منها، مكتسبة مزيداً من المعرف بحقيقة الاشياء.

ملامح جدلية في الفكر الإسلامي

تنتقل العناصر الجدلية، بزخمها، من الفلسفة اليونانية إلى الفكر العربي، وتتداخل مع المؤثرات الآتية من الشرق، كالزرادشتية، والبوذية، والهندوسية، والمانوية، والدهرية، فتضفي عليها الثقافة الإسلامية طابعها وأصالتها، لتنتج عدداً من الفلاسفة والمفكرين الكبار، كالمعتزلة، والكندي، والفارابي، وأبي بكر الرازي، وإخوان الصفاء، وابن سينا، والكرماني، في المشرق، وابن باجه، وابن طفيل، وإبن رشد، وابن عربي، في المغرب. وتتفاوت الملامح الجدلية في أفكار هؤلاء، ولا تتيح لنا حدود البحث سوى تلمس أرزها لدى من سبق المعري، أو عاصره منهم.

جدل الطبيعة والحياة

بلغ الفكر العربي الإسلامي المشرقي، في عصر المعري، ذروة تطوره، قبل أن يستلم المغاربة الراية من بعده، وما سبق أعلاه شكل مصدراً من مصادر فكر المعري، فضلاً عما تقصّاه أبو العلاء من إرث الفلسفة اليونانية، والمذاهب الشرقية (الفارسية والهندية) بما في ذلك، الملامح الجدلية في فكر المعري وما يتصل به.


يرى المؤلف أن الكلمة المفتاحية للعبور إلى فكر المعري هي: “العقل. فالعقل، لدى المعري، قطب المعرفة، ومعيار الحقيقة الأول، بل الوحيد، فإذا اهتزت أسباب اليقين في بصيرته، فإن إيمانه بالعقل لا يهتز”.

وهنا نسأل أي عقل هذا الذي يدير رحى الأمور كلها؟ هل هو العقل الكلي الذي يؤلهه أرسطو، أم هو العقل المفارق في عالم المثل الأفلاطوني. أو عقل الأفلاطونية الجديدة، أو الفيض الإلهي؟ أم لعله العقل الفعال الذي أوكل إليه المشاؤون المسلمون تدبير العالم الحسي؟ أم أنه العقل في منظومة الفكر الإسماعيلي ومن ثم التوحيدي، وهو في كليهما أول المبدعات، والوسيط بين الواحد المنزّه، والوجود الروحي والمادي؟
هذا العقل يقول المؤلف: “القطب، يدعوه المعري لباً، واللب يخص الإنسان، فهو العقل الإنساني، لا العقل المفارق، وبتلك المكانة التي يسبغها المعري عليه، نلمح شيئاً من عقل الرازي، وشيئاً من عقل إخوان الصفاء”.
وليس للعقل الإنساني الذي شيّد الحضارة، واجترح المآثر في الفكر والفن والعمران، أن ينضب معينه، فهو يزداد غنًى كلما ازداد عطاء، وليس سوى البحر شبيهاً به.
فكل معرفة جديدة يحوزها العقل، تمثل توطئة لمعرفة أرفع، في عملية جدلية متصلة، لا مستقر لها، وإذا راودت الشكوك الإنسان، في أمر ما، ورانت عليه الحيرة، فما من هاد غير إعمال الفكر. فالفكر، خالصاً من المصادرات الفلسفية والإيمانية، هو الدليل الوحيد لاستكشاف السبيل السوي، وفي هذا إضاءة لجانب من رؤية المعري في مسألة المعرفة، ويرى المؤلف أن حيرة المعري، أو شكّه، ليس بالشك المبدئي، أو المطلق، إنما الشك الذي يثيره التأمل في الوجود، وبخاصة في المسائل التي يصعب الحكم فيها، كالتصورات الغيبية. وهو بعيد كل البعد، عن شكية السفسطائي اليوناني جورجياس القائل: “لا شيء موجوداً، وان وجد شيء فلا يمكن أن يعرف. وإذا أمكن أن يعرف فلا يمكن ايصاله الى الغير”.
وليس من جامع بين شك المعري وربيبه بيرون القائل بأن المعرفة تتناول ظواهر الاشياء. أما حقيقتها الباطنية فنحن بها جد جاهلين.

المعري يبين، تهافت الشكية المطلقة، ليس بالشواهد العقلية البحتة، وإنما بشاهد من الحياة، لا يستطيع ان ينكره إنسان. فاذا كان للمنطق العقلي الخالص أن يلعب بالأفكار المجردة، فينفي الوجود الموضوعي، أو ينكر القدرة على معرفته، فإن الحياة، بشقائها ونعماها، مما يعيشه الإنسان يومياً، تمثل اقوى حجة ضد تلك الشكية.

يقول المؤلف في هذا الصدد: “لا نستطيع تشبيه شكية المعري، بالشك المنهجي الذي جاء به الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت، والذي انطلق من شك مبدئي، ليصل، عبره، إلى مبدأ اليقين؛ أنا أفكر إذاً أنا موجود”. لكن ذلك قاده من ثم، إلى مصادر إيمانية، جعلته يراوح بين المادية والمثالية”. وتنحصر العمليات المعرفية، لدى المعري، في الحوار الجدلي بين معطيات الحواس والاستدلال والاستقراء العقليين، وما يقود إلى الاستقراء من حدس.

يشكل الإيمان بالعقل حجر الزاوية في بناء رؤية جدلية متماسكة ومنسقة، سواء كانت مثالية المحتوى، أم مادية، “لكن ذلك لا يعني ان الجدل منهج يجري تعلمه، أو شيء مقحم على العقل من خارجه. فالجدل، في حقيقته، جزء من بنية العقل، يتولد عبر الحوار بين الانسان والوجود الخارجي، وبينه وبين ذاته”. كما يتعلق باستعدادات عقلية، وخلفية ثقافية، تجعل العقول الانسانية متفاوتة في جولتها. فثمة من يمتلك بنية فكرية اقرب إلى المنطق الصوري، ومن يمتلك بنية أخرى أقدر على القراءة الجدلية للوجود، وعلى التفكير الجدلي الخلاق، وكان المعري من هذا الصنف.
ومن أهم لبنات المنهج الجدلي، في نظرية المعرفة، الجمع بين النظرية والممارسة، والتفاعل بينهما، وقد يبدأ ذلك بالحدس المستند إلى جملة من المشاهدات والاستقراءات؛ لكنه لا يتحوّل إلى علم إلا بالاختبار الحسي.

صورة الكون والزمان والمكان

من شأن العقل المستنير برؤيته الجدلية، أن يستقرئ نواميس الوجود، ويتقصّى أبعاد الظواهر الكونية، ملتمساً فهماً أعمق لحقيقة الكون، وتمثلاً لسيرورته. ولعل أول ما ينكشف لذلك العقل، الحضور المهيب للدهر، الذي يضرب بأصوله في الأزل، لكنه المتجدد في كل حين، فهو الدهري الفتي أبداً. “ففي الدهر يأتلف الضدان: القِدَم والجدة، ويتصل اللامتناهيان؛ الأزل والأبد. وتحفل سيرورته بالحياة، ما يولد وما يفنى، فلا يخلو من نبضها ليلاً أو نهاراً”، فالكائنات موجودة منذ الأزل، لا يخلو الزمان منها، والمادة قرين الدهر، أزلية كأزليته، ما يمس رأي الدهرية في قدم العالم، لكن أبا العلاء المعري لا يغلو في ذلك، كما يبدو لنا، فينكر وجود الخالق. يقول المؤلف: “الخالق، والمادة، والزمان، جواهر أزلية، وسوف يلتحق المكان بهم، وربما النفس، ليذكّروا بالجواهر الخمسة القديمة التي قال بها، من قبل، أبو بكر الرازي”.

لا يذهب المعرّي مذهب أرسطو، وأتباعه من المشائية، في أن الزمان حركة الفلك، أو هو عدد تلك الحركة، بالأحرى، وإنما ينفرد بتعريف لم يقل به أحد من أهل زمنه. فقد جاء في رسالة الغفران أن قول بعض الناس: “الزمان حركة الفلك”، لفظ لا حقيقة له… وقد حددته حداً، ما أجدر أن يكون قد سُبق إليه، إلا أني لم أسمعه؛ هو أن يُقال: الزمان شيء، أقل جزء منه يشتمل على جميع المدركات، وهو في ذلك ضد المكان، لأن أقل جزء منه لا يمكن أن يشتمل على شيء كما تشتمل عليه الظروف: فأما الكون فلا بد من تشبثه بما قلّ وكثر.

ومن منظور المؤلف، ما دام المكان، كالزمان، لا حد له، فإن الكون غير متناه، أو محدود. وفي هذا إنكار لما شاع، في عصر أبي العلاء المعري، من تناهي العالم، وهو ما اتفق عليه المتكلمون، وما ذهب إليه، من قبل، عدد من فلاسفة اليونان، كأفلاطون وأرسطو وسواهما، الذين تصوروا الكون مؤلفاً من أفلاك كروية متداخلة، تنتهي عند كرة النجوم الثابتة.
“ومثلما المكان، يتألف الزمان، على امتداده الذي لا يُحد، من أجزاء تصغر فتستدق، وتكبر حتى تطاول اللانهاية، فيجتمع، من مفهوم الزمن، جدل المتناهي واللامتناهي، وجدل الكل والجزء”.
إن المكان في ارتباطه بالمادة، يتّصف بخاصتين رئيستين، أولاهما، أن أي جزء منه لا يحيط بالمدركات جميعاً، وإنما يقتصر على ما انطوى عليه، والثانية، ثباته النسبي، والمتمثل في استقراره، في حين يتصف الزمان، كشكل آخر لوجود المادة، بخاصتين أخريين: أولاهما، اشتمال كل جزء منه على جميع المدركات، وثانيتهما: الحركة التي لا قرار لها، ذهاباً من الماضي إلى المستقبل.
وبذلك يقول المؤلف: “أدرك المعري جدلية العلاقة بين المكان والزمان، من حيث تضادهما من وجهين: الإحاطة، والحركة، واتحادهما معاً، عبر ارتباطهما بالوجود الكوني”.
وعقل المعري لا يستطيع تصور وجود خارج الزمان والمكان، أياً كان ذلك الوجود، وهو بذلك ينحو منحى الرازي القائل بالكينونة الأزلية المشتركة، للمكان والزمان إلى جانب الخالق.
وبقي من حديث الزمان والمكان أن نشير إلى أن المعري يقول المؤلف: “إذ أعرض عن تعريف الزمن كحركة للفلك، فقد نفى ارتباط الزمن بحركات الكواكب والنجوم، خلافاً لما قال به معظم فلاسفة عصره، من المشائية، وأخوان الصفاء وغيرهم، وعلى الرغم من أن كثرة من الشواهد تقرن الزمان والمكان بالكون في حركته”، فإن وصف أبي العلاء الليل والنهار، بأنهما لا يقفران ولا يخلوان، يوحي بأنهما وعاءان مستقلان عما يجري داخلهما من حوادث. وقد تقارب هذه النظرة ما سوف يقول به العالم الفيزيائي والرياضي الإنكليزي إسحق نيوتن من أن للزمان والمكان وجوداً مطلقاً، مستقلاً عن الأشياء والحوادث، وهما يشكلان مرجعين تنسب إليهما حركات المادة وسكناتها، وهو ما نقضته، في ما بعد، نظرية أينشتاين في النسبية، التي ربطت بين المكان والزمان، وبينهما وحركة المادة. فلم يعد لهما من وجود مطلق، إلا كمفهومين ذهنيين، أما وجودهما الملموس، فيرتبط بطابع الحركة وسرعتها.

وحدة الكون وترابطه

ينقل المعري الوحدة المادية للكون من الأجرام السماوية إلى العالم الحي. فالكائنات الحية بحسب ما يقول المؤلف: “تنبثق من أصل مادي واحد؛ إنما يقع الاختلاف في الصور وسماتها النوعية. ويتخطى المعري، في بعض أبياته الشعرية هذا، النظرة الميتافيزيقية التي تفصل الإنسان عن سواه من الكائنات، وترفعه فوقها”.

إلا أن المعري لم يستخدم لفظة الصورة، ولو أراد فعل، وإنما أبدل الشكل بها، ولعله تعمّد ذلك، فقد كان يخالف المشائية الأرسطية في أفكار عدة، ومنها إعراضه عن القول بالغائية في الأشياء أو صورة الأشياء. وأياً كان الأمر، فإن جوهر الفكرة، يظل التعبير عن الوحدة الكامنة في التنوع، وهي فكرة رئيسية جدلية؛ وعما هو ثابت خلف التغيّر والزوال، ما يتصل بمطلب فلسفي قديم، يرجع إلى بواكير الفكر اليوناني، والفلسفة الشرقية، ويحاول أن يحدس الجوهر الواحد الذي تتألف منه سائر الأشياء، على تنوعها وثرائها، من ماء طاليس إلى نار هيراقليطس، إلى الوجود الثابت لدى الأيليين كبارمنيدس إلى عناصر امبدوقليس الأربعة فذرات ديمقريطس، ثم إلى مُثل أفلاطون، فهيولى أرسطو.

وما أجدر الوحدة في نظر المؤلف المادية للكائنات جميعاً، بأن تقود صاحبها إلى احترام حق الحياة لكل كائن حي، وهو ما اعتنقه المعري. وأن يرتقي بالإنسان إلى نظرة متسامية تزدري قسمة البشر إلى أعراق وملل، يدّعي بعضها شرفاً على سواه، أو طبقات اجتماعية يستعيد قويّها ضعيفها. ولا تقتصر الوحدة المادية للكائنات في رؤية المعري، على الأحياء، فحسب، فهي تصل إلى الجماد والعالم الحي، عبر دور مستعاد، من التراب إلى الكائن الحي، فإلى التراب من جديد.

جدلية الطبيعة

إن العقول ذات البنية الجدلية، تستطيع الوصول إلى تصورات متقاربة، فكأنها تتخاطر عن بعد، فمثلها تمثل هيراقليطس حركة الوجود الجياشة المتجددة، رأى المعري في الكون بنية دينامية في سيرورة مستمرة. وفي الزمن المتطاول حتى الأبد، تتولد الأضداد، فتتصارع، وتتناغم، وتشتبك، فلا تخلو منها كينونة، حتى الزمان ذاته.
ويؤكد المؤلف أن الزمان قديم حديث في كل آن، يعمّر فلا يشيب، ويلحق التغيير والفناء بكل شيء عداه، وإليه ينسب القِدَم والجدّة، هو مدرك وغير مدرك، ويجهد المفكرون في تعريفه أو تحديده، فينبو عن كل تحديد.
وكما يتجاذب الضدان: القِدَم والجدّة، آنات الزمان، يفعل النّعم والبؤس. يقول المؤلف: “يتداول الضدان التوأمان: الليل والنهار، حياة الكائنات، نعيماً وبؤساً، خيراً وشراً، ما يعيد إلى الذاكرة المبدأ الزرادشتي والمانوي الذي يطابق بين النور والخير، والظلمة والشر”. وكان لا يزال للمجوسية والزرادشتية، والزندقة المانوية، بقية من الوجود، في عصر المعري. وأفكار الديانتين معروفة آنذاك، لدى المشتغلين بالفلسفة، وعلم الكلام. وربما تأثر فكر المعري الموسوعي، قليلاً أو كثيراً، بهذه الفكرة أو تلك من أفكار عصره، فدخلت في نسيج منظومته الفكرية المتفردة، والتي لا يمكن أن تُنسب إلى مذهب أو مرجع بعينه.
إن التناقض كامن في جوهر الوجود وسيرورة الدهر؛ وهو سر التغيير. وفي تلك السيرورة يعتنق الفناء والبقاء في كل لحظة. “فإذ يمضي الدهر، تفنى آناؤه المعدودة، لكن الوجود يستمر ويتجدد، فلا سبيل إلى فناء الوجود، ولا إلى نفاد الدهر”. إنه تعبير بليغ عن القانون الجدلي: وحدة الأضداد وصراعها. وإذا كان المنطق الصوري يرى التناقض فحسب، فإن عقل المعري الجدلي يرى الوحدة بين المتناقضات، وما من شيء يقع تحت الحواس، بريء من التضاد، كل كائن محدود بضده معيّن به.

لكن المعري أصرح في التعبير عن وحدة النقيضين في التركيب بين الماء والنار، فهو تباين وتشابه أو اشتكال في الوقت عينه، بل إن أبا العلاء جعل التشابه يتولّد من التباين، ليضفي على الفكرة بعداً جدلياً أعمق. فالنقيض لا يقابل النقيض فحسب، وإنما يخرج منه، مثلما تتولد المقولات المتضادة بعضها من بعض، في منطق هيغل.

ولكن الأضداد تجتمع، فتستمع، وتنصرف بلذات، من غير أداة. وانصراف الأضداد، كما يبدو، كناية عن تحللها وتبدّدها، ولعل ذلك يحدث بفعل الجدل الداخلي الخفي فيما بينها، من دون قوة خارجية ظاهرة. ألا يعيد هذا إلى الذاكرة حديث هيراقليطس عن تلك الأضداد التي تتفرّق وتتجمع، تظهر وتغيب، في اللحظة نفسها.


فكر المعري.. ملامح جدلية
-تأليف: كمال قنطار
-دار الفارابي بيروت، 2014.