رســالة الغفـران والانفتــاح على الآخر المتعدد
زهـور كـرام
ناقدة وأكاديمية مغربية
عندما نعيد قراءة “رسالة الغفران” لأبي العلاء المعري، باعتبارها من أهم السرود التراثية العربية، سنجدها خطاباً يؤسس لفكرتين مهمتين: من جهة الانفتاح على الآخر بتعدده وتنوعه، ومن جهة ثانية، محاورة الذاكرة، واختراق الصور الجاهزة. فكرتان تشخصان بلاغة “رسالة الغفران” في تشييد عمل إبداعي، يمثل-رمزياً- حالة الوعي السائدة، وينتج معرفة بمنظومة القيم التي كانت مهيمنة سواء على مستوى السلوك الاجتماعي، أو على مستوى التمثلات الذهنية.
لا شك أن رسالة الغفران لأبي العلاء المعري، من أهم النصوص العربية التي تعبر عن نظام بنائي سردي مركب، يشخص حالة الوعي لدى المبدع التراثي العربي لأسئلة التعبير والكتابة والحكي. وكذا لشكل تسريد المجتمع، وكلامه ولغته، وثقافته، ورؤاه وإدراكاته للعالم. وذلك لامتلاكها بلاغة الارتقاء باللحظة الإبداعية إلى حالة سردية، تتفاعل فيها أزمنة وعصور وخطابات وأشعار وكلام الفقهاء واللغويين. كما تميزت ببلاغة الانفتاح على الحركية السردية، باستحضار أساليب ونصوص وطرائق متعددة في التعبير.
إن رسالة الغفران باعتبارها جواباً على رسالة «ابن القارح»، فإنها تتجاوز المرسل إليه، وتنفتح على عوالم كثيرة، يصنع بها المعري حكايته عن العالم الآخر.
وإذا اعتبر الكثير من الباحثين رسالة الغفران، شكلاً نثرياً يؤكد أهمية التراسل الذي كان سائداً في عصر المعري، والذي كان يهدف إلى إظهار البراعة اللغوية للمرسل، وعرض مظاهر الذاكرة المقروئية، وفي ذلك كان يتباهى المبدعون والفقهاء واللغويون فيما بينهم، فإن التراسل يمكن اعتباره -من وجهة نظر أخرى- تعبيراً عن قوة حضور الآخر في وعي الذات. لأن التراسل هو سفر نحو الآخر، مع حضور الذات التواقة إلى الآخر، وأيضا سفر بمرافقة ضمير الآخر الذي يعد مكوناً منظَماً لخطاب الرسالة. في غياب الآخر، يسقط منطق التراسل.
تأتي رسالة الغفران ممتلئة بالآخر المتعدد، والمتنوع في خطابه وفكره وطريقة تعبيره. يستدعي المعري إلى رسالته مجموعة من الشعراء الذين ينتمون إلى عصور متفاوتة زمناً، بدء من العصر الجاهلي، ومن لغويين يحضرون بأطروحاتهم اللغوية، وآرائهم الجدلية، ومن فلاسفة يقيمون بالرسالة من خلال تصوراتهم . يدخلهم المعري إلى عالم الجنة والنار، ويدفع بهم في متخيل رسالة الغفران، إلى القيام بوظائف جديدة، تتحدد في علاقتهم فيما بينهم من جهة، وبابن القارح من جهة ثانية. ينشأ عن هذه العلاقات حوارية داخلية بين نصوص ولغات، وبين كلام المتكلمين، حيث ينتصر السرد للقول هنا. وكما قال عبد الفتاح كيليطو ليس في رسالة الغفران مكان للبكم. فالشخصيات تحضر بكلامها، ووجهة نظرها، وآرائها التي تغير أحيانا وجهة نظر السارد ابن القارح، كما تغيَر نظام الكتابة.
تمنح رسالة الغفران مكانة خاصة للقول الذي يتحكم في عملية إنتاج السرد. وبالتالي، فإن من استحق البعث في العالم الآخر من الشعراء والفقهاء واللغويين هم الذين كانوا يملكون جرأة التعبير والقول بطريقة إبداعية خلاقة، تنتج الموقف. وهذا ما شخصته حالة استغراب «ابن القارح» عندما يلتقي شاعراً وقد نال الغفران بسبب قول حكيم، أو بلاغة في التعبير. هكذا، تشكلت «رسالة الغفران» من نصوص نثرية، وشعرية ولغوية وفقهية وأسطورية تحضر، إما بأبنيتها كقصائد شعرية، يتم إدراجها ضمن حوار بين الشاعر وابن القارح حول مسألة إبداعية أو لغوية أو فقهية، أو عبر تسريد الشعر، وتحويله إلى لغة ساردة، وهو مظهر سردي تميزت به “رسالة الغفران” التي تؤسس لعنصر التجاوز، وذلك لأن تسريد الشعر يعد خرقاً للصورة الذهنية للشعر في الذاكرة العربية.
في رسالة الغفران يعيش الشعر اختراقات بنيوية داخلية. إذ، يعمل السرد على تطويعه، ليصبح أسلوباً حكائياً بامتياز، ويلجأ إليه السرد عند المعري لتشخيص حالات نفسية وإنسانية وفلسفية، وتصوير مشاهد في عالم الجنة والنار. تصبح رسالة الغفران بهذا الشكل، ملتقى التصورات والمواقف حول قضايا فلسفية ووجودية ودنيوية ودينية ولغوية. وبهذا، فإستراتيجية السرد في رسالة المعري، تستجيب للطروحات التي تجعل من السرد عبارة عن إعادة تشكيل الهوية الاجتماعية والثقافية بصياغة جديدة.
تتحقق رسالة الغفران من الآخرين. لا تدرك رسالة المعري إلا من خلال إدراك الآخرين، شعراء وفقهاء وفلاسفة. كما لا يدرك كل هؤلاء إلا من خلال الوعي بخطاباتهم، ونصوصهم ولغاتهم وآرائهم. ينتج هذا الوضع البنائي في الكتابة لدى المعري، معرفة بماهية المبدع زمن النص التراثي العربي. إنه مبدع منفتح على الآخر عبر انفتاحه على ذاكرته المشبعة بنصوص ولغات الآخر. عندما يتعطَل الآخر عن حضوره الوظيفي داخل رسالة الغفران، تسقط نصية الرسالة. الآخر منتج للرسالة، والمعري مقبل على الآخر، والعلاقة بين الفعلين، أو الذات والآخر، تؤسس لحوارية تفاعلية، ما تزال شاهدة على انفتاح السرد التراثي على أقوال الآخر، وعلى جرأته على تفكيك الصور الذهنية المتوارثة مثلما حدث مع تسريد الشعر.
قبول الآخر باعتباره رؤيا، ووجهة نظر، مؤهلة لتغيير نظام تفكيرنا، والجرأة على تفكيك الصور الجاهزة، ومحاورة الذاكرة الجماعية، وإعادة ترتيب نظامها، تعد تمثلات رمزية يزخر بها التراث.
ليس إذن، المشكل في التراث، إنما في طريقة المجيء إليه، وفي شكل التواصل معه. قد ننطلق من التراث موضوعاً لتفكيرنا، غير أن التراث يحولنا إلى موضوع لمنطقه الذي يتجاوزنا حين يفضح التباس زمن اللحظة الهاربة من العقل.