الحزن عند أبي العلاء المعري

عدنان الظاهـر

شاعر و ناقد عراقي

المعري يرثي والدته

أما أبو العلاء المعري – رهين المحبسين وفيلسوف معرة النعمان – فإنه هو الآخر قد نكب بعد المتنبي بوفاة والدته. فكيف يكون حزن الرجل الأعمى؟ وكيف تكون وحدته؟ وعلى أية درجة من القتامة إذ يمسي وحيداً بلا زوجة ولا أهل ولا ولد ولا من يرعى شؤونه الحياتية اليومية الرتيبة البسيطة حد تحريم أكل اللحوم: 

[poem]
هـذا جَــــنَاهُ أبـــي علَــيَّ ** و مـا جَـنَـيْـتُ علــى أحَـــد

[/poem]

ثم: 

[poem w=’85%’]
تَعَـبُ كُلّــها الحَيــاةُ فَمـا أعْـــ ** جَـبُ إلاّ مِـنْ راغــبٍ فـي ازْديـادِ
إنّ حُــزْناً في ســاعةِ المَـوْتِ أضْـعَا ** فُ سُــرُورٍ في سـاعَةِ الميـــلادِ
[/poem]

سألت متى اللقاء

هذا هو عنوان مرثية أبي العلاء لأمه حيث قال فيها فأبدع صياغة العاطفة بقوالب الشعر العربي وتفعيلات الفراهيدي فعالجها في غاية المرونة وطوع عصيها كما الحداد الماهر يعالج بارد الحديد بمنفاخ النار مع الفارق. فنار الشاعر منصهر روحه العلوية التي تتسامى لهباً ونوراً وناراً يخالطها الألم المكتوم الذي لا يكاد يبين… فلا يزيد من ناره إلا أواراً فيحيل “سقط زنده” جحيماً ولا جحيم الشاعر الإيطالي (دانتي):

[poem]
سَـمِعْتُ نَعِيّـها صَــمّـا صَـمَـامِ ** وإنْ قــالَ العَـوَاذِلُ لا هَمَــامِ
وأمَتْنــي إلــى الأجْــداثِ أُمٌّ ** يَعِــزّ عَلَيّ أنْ ســارَتْ أمامي

[/poem]

أجل، فلقد عز عليه كثيراً أن تموت قبله وكأنما كان يريد أن تتخذ الأقدار مساراً آخر مغايراً، ولكن هيهات فلقد سبقه أبو الطيب إذ قال:

[poem]
ما كُـلُّ ما يَتَمَنّـى المَــرءُ يُدرِكُــهُ ** تَجري الرِيـــاحُ بِما لا تَشـتَهي السُـفُنُ

[/poem]

إن حسرة الشاعر على فقده والدته لفجيعة حقاً. ولقد عبر عن هذه الفاجعة بأقصى آيات الصراحة والبراءة والبلاغة إذ تخيل نفسه، وقد رجعت به السنون القهقرى طفلاً رضيعاً، فما أمس حاجته لأم تغذيه اللبن مع الحنان، والحنان يأتي من الصدر الذي يعطي اللبن. وهل في الدنيا من يقوم مقام الأم بالنسبة لرضيع؟ فلنسمعه يقول:

[poem]
فيا رَكْبَ المَنُـــونِ أمَا رَسُــولٌ ** يُبَلّـــغُ رُوحَـــها أرَجَ السّـلامِ
سألتِ مَتَى اللّقاء فقيل حتى ** يَقُومَ الهامِدُونَ مِنَ الرِّجـــامِ
فصَــرَّفَنـي فَغَيّرَنــي زَمَــــانٌ ** سيُعْقِبُني بِحَـذْفٍ وادّغــــامِ
[/poem]

ثم يشرق الشاعر ومن ثم يغرب متهرباً من موضوع قصيدته الأصل هنا وهناك تهيباً من المصاب الجلل تارة، و إشفاقاً على نفسه التي ناءت بحمل لا يطاق تارة أخرى، حتى ينهي القصيدة بالأوبة التي لا مناص منها لمناجاة حبيبته الوالدة التي لا ثاني يضاهيها في الحياة. وهل تتكرر والدة؟

[poem]
كَفـــاني رِيُّـــها مِنْ كُــلّ رِيّ ** إلى أن كِدْتُ أُحْسَبُ في النّعامِ
سقَتْكِ الغاديــاتُ فما جَهَـامٌ ** أطَــلّ على مـحَــلّكِ بالجَهــــــامِ
وقَطْرٌ كالبِحارِ فلسْتُ أرْضَى ** قَطْرٍ صــابَ مِن خَـلَلِ الغَمـــــامِ
[/poem]

وبعد ألف عام اختار الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري كما سنرى لاحقاً ذات البحر وعين الروي والقافية لقصيدته التي رثى بها أمه. فأي تأثير قوي عجيب مارسه ولما يزل هذا العبقري الأعمى على المحدثين من ذوي البصيرة والبصائر من الشعراء؟! لقد رد الجواهري له الجميل في قصيدته التي ألقاها في مهرجان ذكرى ألفية  أبي العلاء المعري الذي أقامه المجمع العلمي العربي في دمشق ومطلعها:

[poem]
قِفْ بالمعَرَّةِ وامسَحْ خَدَّها التَّرِبا ** واستَوحِ مَنْ طَوَّقَ الدُّنيا بما وَهَبا
واستَوحِ مَنْ طبَّب الدُّنيا بحكْمَتَهِ ** ومَنْ على جُرحها مِن روُحه سَكَبا
[/poem]

حرف الميم مرة أخرى

أعود ثانية لحرف الميم اياه. ففي البيت الثاني من قصيدة المعري ورد حرف الميم مرات أربع في ثلاث كلمات أدت معاني مختلفة وإن كانت ترجع أساساً إلى أصل واحد. والمعري بارع في هذا الفن وأشعاره تزخر بهذه النماذج وأضرابها من الجناس والطباق والتورية وباقي المحسنات البديعية. يقول في هذا البيت:

[poem]
وأمَتْني إلى الأجْداثِ أُمٌّ ** يَعِزّ عَلَيّ أنْ سارَتْ أمامي
[/poem]

لقد تكرر حرف الميم هنا أربع مرات. والذي يؤم الصلاة هو الإمام. وإمام الصلاة هو الذي يتقدم صفوف المصلين، أي أنه يقف أمام الجميع. فأي خشوع يعانيه هذا الابن الأبر إذ يلفظ كلمة “أم”؟ حتى أنه لكأنه يروم أن يقول أن الموت فرض آخر يحتاج بدوره إلى إمام يقود الناس إليه وأنهم يمارسونه كواحد من الشعائر المقدسة المفروضة على بني الإنسان. فالموت، كالصلاة، لا بد له من إمام ينسق ويوجه الناس إليه في سفرهم الأخير.
إن قصيدة “سألت متى اللقاء” واحدة من أصعب قصائد أبي العلاء، لا من حيث تعقيد تراكيب الجمل فحسب، بل ومن حيث غرابة معانيها وغرابة ما اختار من مفرداتها الأمر، الذي قد لا نجده في باقي أشعاره إلا فيما ندر (وأقصد أشعار ديوان سقط الزند فقط).

ذكر البهائم

ورد في قصيدة رثاء الشاعر لأمه – وهي في أربعة وستين بيتاً – ذكر أسماء عشرة حيوانات هي حسب تسلسلها في القصيدة: الحمامة والنسر والأسد والفراشة والحية والناقة (تلميحاً و تضميناً) والحرباء والجنادب والضب والنعام. فعلام يدل هذا إن كان له ثمة من دلالة؟ هنالك تفسيرات لهذا الأمر  متداخلة لدرجة يصعب معها أو يستحيل الفصل فيما بينها ما دام الشاعر موضوع البحث شخصاً كأبي العلاء المعري:

1- الإسراف في ذكر الحيوان ينم أو حتى يفضح حاجة المرء لأكل اللحوم التي حرمها على نفسه طوعاً.
2- التعويض عما يحسه في قرارة نفسه من نواقص وعلل في الشائع والمعروف من صفات هذه المخلوقات. فالوداعة في الحمامة هي وداعة الشاعر الضرير الملازم داره. وكتمانها الصوت المغرد دون القدرة على فتح المنقار، فيه الكثير مما نجده في طبع الشاعر من ميل للتكتم والاعتزال ثم استحالة الحركة الحرة بالنسبة لرجل أعمى.
لقد استأثر الحمام باهتمام خاص من لدن الشاعر خاصة في بعض مراثيه وحيثما يتطلب الأمر بث الشكوى والتعبير عن الأحزان، كما فعل في قصيدة “ضجعة الموت رقدة” التي رثى فيها أبا حمزة ومطلعها أشهر من أن يعرف:

[poem]
غَيْرُ مُجْدٍ في مِلّتي واعْتِقادي ** نَــوْحُ بـــاكٍ ولا تَرَنّـمُ شــادِ
أَبَكَـتْ تِلْكُــمُ الحَمَامَــةُ أمْ غَنْ ** نَت عَلى فَرْعِ غُصْنِها المَيّادِ
أبَناتِ الهَديـــلِ أسْــعِدْنَ أوْ عِدْ ** نَ قَليـلَ العَــزاءِ بالإسْـــعَادِ
إيه للّهِ دَرّكُــــنّ فأنْتُــــــنّ اللْـ ** لَوَاتي تُحْسِــنّ حِفْظَ الوِدادِ
[/poem]

ثم لاحظ قوله في القصيدة موضوعة البحث: 

[poem]
وَحَمّـاءَ العِـلاطِ يَضــيقُ فُوهَــا ** بما في الصّدرِ من صِفَةِ الغَرامِ
تَداعَى مُصْعِداً في الجيدِ وَجْدٌ ** فغـالَ الطَـوْقَ منــها بانْفِصَـــامِ
[/poem]

أي أن الوجد المتصاعد كاد أن يشق طوق الحمامة الأسود الذي يطوق رقبتها. فإن هذا الطوق لا يصمد أمام جيشان الوجد المنغم المشدو هديلا. فالوجد عات لكن سبيل التعبير عنه في غاية الضيق. ورهين المحبسين يعرف كيف يداري شجونه ويدري كيف يصرفها وهو الكاظم الأعظم للنزعات البشرية وكابح دواعيها. ومن يتغلب على دنياه لا يشق عليه قهر نداءاتها وإن ألحت.
هذا المنهج ليس طارئاً على الشعر العربي كما نعلم. فلقد سبق أبو فراس الحمداني أبي العلاء المعري في هذا المضمار إذ خاطب الحمامة وهو في سجنه أرق خطاب:

[poem]
أَقولُ وَقَد ناحَـت بِقُربي حَمامَــةٌ ** أَيا جارَتا هَل تَشـعُرينَ بِحـالــي
أَيا جارَتا ما أَنصَـــفَ الدَهــرُ بَينَنا ** تَعالِي أُقاسِــمكِ الهُمومَ تَعالِي
لَقَد كُنتُ أَولى مِنكِ بِالدَمعِ مُقلَةً ** وَلَكِنَّ دَمعـي في الحَوادِثِ غالِ
[/poem]

والمقابلة هنا جد واضحة بين الأسر الروحي والبدني وبين الحرية التي تنعم بها الحمامة.
هذا عن الحمامة، أما النسر فله رموزه ومغازيه ولعل أبرزها -فضلاً عن حرية الانطلاق- الشموخ والطيران على ذرى الجبال والقمم العوالي. ثم حدة البصر الذي يفتقده الشاعر المسكين أصلاً. وفي الأسد البأس والجبروت واحتقار الرمم والجيفة والميتة ثم أنه مليك الغاب بلا منازع.
ومن ذا الذي استطاع أن ينافس أبا العلاء في زمانه شعراً وفكراً وفلسفة والتزاماً؟

الضب والنعام
أما الضب والنعام فإنها تحاكيه في جلده وفي تمنعها عن الماء وصبر النعام على العطش:

[poem]
كَفاني رِيُّها مِنْ كُلّ رِيّ ** إلى أن كِدْتُ أُحْسَبُ في النّعامِ
[/poem]

الناقة: أما تعلق المعري بالناقة فلا مثيل له، ولا يلام. فالناقة واسطة نقله من بغداد إلى بلاد الشام:

[poem]
طَرِبْـنَ لضَوْءِ البَـارِقِ المُتَعالي ** بـبَـغدادَ وهْنـاً مـا لَهُنّ وما لي
[/poem]

وإبله يطربها فرح التوجه نحو مسقط الرأس بعد أن برم ببغداد:

[poem]
وكـم هَـمّ نِـضْـوٌ أن يَطيـرَ مع الصَّـبـا ** إلى الشــأمِ لولا حَــبْـسُهُ بـعِـقـال
ولولا حِـفـاظـي قـلتُ للمَرْءِ صاحبي ** بسَـيْفِــكَ قـيّـدْهـا فـلسـتُ أُبـالي
[/poem]

ثم إن الناقة مصدر لبن الشاعر وصنوه في مكابدة العطش واحتمال الأذى والمشاق.
لقد خص الشاعر الحمامة بخمسة أبيات في قصيدة “متى اللقاء” وخص الأسد (وأسماه الورد) بعشرة أبيات والأفعى
بتسعة. وهذا الأمر يبدو في غاية الغرابة. إذ ما الذي يستهوي المعري في الأفاعي؟ لقد توارد في هذه الأبيات التسعة ذكر ألفاظ عميقة الدلالة، إلا أن تحليل مراميها في غاية اليسر. فالدروع (وله قصائد خاصة بها) وسم الأفعى الذي يحيل الجبل كثيباً من الرمال، وجلدها الذي تبدله مراراً كل عام هي في الحق تعبيرات ظاهرية تخفي في طياتها رموزاً بعيدة الغور في بحور هذا الرجل المنطوي القاصر المتشائم الكثير الحذر.
لا بد من طرح السؤال الآتي: ما دخل رثاء والدته بهذا الحشد الغريب المنوع من البهائم، وفيها الوديع، وفيها الصبور القانع، كما فيها اللئيم والمفترس؟!

الحمامة: أحسب أن الحمامة في هذه المرثية هي أم المعري بعينها، وأن الأسد الورد والده. وعلى هذا فلقد أخطأ مفسرو القصيدة  – وقد هرب منها طه حسين كما سنرى هروباً مطلقاً – في تعليقاتهم على حمامة المعري. فلنسمعه ماذا قال:

[poem]
أشاعَتْ قِيلَها وبكَتْ أخاهَـا ** فأضْحتْ وهْيَ خنْساءُ الحَمـامِ
[/poem]

أما مفسرو القصيدة فقد ذهبوا الى أن هذه الحمامة قد جهرت بصداحها!! وماذا في الأمر هذا من غريب؟ وهل يستوي هذا التفسير السطحي، وهو ليس بتفسير أصلاً، مع الغموض والإيهام وفلسفة التورية التي شهر بها المعري؟ الصحيح كما أراه أنا، أن أم الشاعر (وهي موضوع الرثاء) كانت قد فقدت زوجها أو سيدها (قبلها) فشيعته إلى قبره (أشاعت قيلها). وهذا التفسير متطابق مع حقائق الأمور المعروفة عن تأريخ عائلة المعري. أما الخنساء فخطبها مع أخيها صخر غني عن التعريف:

[poem]
يُذَكِّرُني طُلوعُ الشَمسِ صَخراً ** وَأَذكُـرُهُ لِكُلِّ غُـــروبِ شَـمسِ
وَلَولا كَــثرَةُ الباكــينَ حَـولــي ** عَلى إِخوانِهِم لَقَتَلتُ نَفســي
فَلا وَاللَــهِ لا أَنســـــاكَ حَتّـى ** أُفارِقَ مُهجَتي وَيُشَقُّ رَمسي
[/poem]

الأسد: أما الأسد الورد (أي الأشقر اللون) فلست أعدو الحقيقة إذ أقرر أنه لا يمكن إلا أن يكون والد الشاعر نفسه. قال في وصفه وفيما حوله وجمر عينيه الذي يجتذب الفراش إليه ليلاً وهي تتقد شرراً وتتوهج ناراً.
لقد وصف فأبدع في وصفه لدرجة يحسده عليها الكثير من المبصرين سواء أكانوا شعراء أو رسامين:

[poem]
بَدَا فَدَعـــا الفَرَاشَ بناظِرَيْــهِ ** كمـا تَدْعـــوهُ مُوقِدَتَا ظَـــلامِ
بنَــارَيّ قادِحَيْنِ قد اسْـــتَظَلاّ ** إلى صَرْحَيْنِ أوْ قَدَحَيْ مُدامِ
كأنّ اللّحْظَ يَصْدُرُ عن سُــهَيْلٍ ** وآخَــرَ مِثْلِهِ ذاكـــي الضّـرَامِ
تَطُوفُ بأرضِهِ الأُسْدُ العَوادي ** طَوَافَ الجَيْشَ بالملكِ الهُمامِ
وقـــالَ لِعِرْسِـهِ بِيني ثَلاثــــاً ** فما لَكِ في العَرِينَةِ مِنْ مُقامِ
[/poem]

فهل رأيت أجمل أو أكمل من هذه اللوحة التي رسمها فنان كفيف البصر؟ الصدق والدقة في محاكاة الطبيعة من شدة لمعان عيني الأسد وحمرة سهيل النجم وتوقان الفراش للضوء ليلاً. ثم يؤوب بعاطفته منكفئاً بعد كل هذا التطواف المكثف والشديد الرمزية إلى عالمه الخاص والمغرق في الخصوصية. ففي لحظة موت الأم من هو الأحرى بالتذكر غير الأب الذي فارق الحياة وقتما كان الشاعر في الرابعة عشرة من عمره. فهذا الملك هو والده بعينه وكل البرية طرا هي هذا الجيش اللجب الباقي على قيد الحياة حيث يلتمس الشاعر فيه بعض العزاء وبعض القوة يستعين بهما في مغالبة ضعفه المركب : اليتم المزدوج والعمى.
أما البيت الأخير فإنه من الوضوح بحيث لا يترك زيادة لمستزيد: “وقال لعرسه بيني ثلاثا”. لقد فارق الوالد زوجه الفراق الأبدي، عبر عنه بالبينونة الثلاثية الكبرى في الشرع الإسلامي.
الحية
: أما الحية (الحباب)، وقد خصها بتسعة أبيات كاملة، فإنها في نظري التعبير الرمزي اللاشعوري عن الخوف وتوقع الدسائس ومكائد الحساد والخصوم. فالأفعى سامة في شعر أبي العلاء، والأفعى تغير جلدها بشكل دوري دلالة على قلق الرجل وانعدام الثبات في الحياة، والأفعى رقطاء وكل رقطاء سامة:

[poem]
على أرْجائِهــا نُقَطُ المَنايــا ** مُلَمَّعَةً بهـا تَلْيمعَ شــامِ
[/poem]

لاحظ روعة الجمع بين صفات الحيوان (الأفعى) وبعض ما نعرفه عن طبيعة البشر (الشامة) والدلالات التي يحملها مثل هذا التشبيه والمقابلة. نقط الأفعى (وهي سامة قاتلة) على جلدها  تقابلها  شامة جلود بني البشر. فهل أراد المسكين أن يقول أن لا فرق بين البشر والأفاعي: الكل سام وغادر فتاك؟
قال المعري هذه القصيدة بعد رجوعه الى المعرة تاركاً بغداد حيث أبلغ بخبر وفاة والدته وهو في الطريق. يقرر طه حسين أن المعري لم يسلم في بغداد، وقد أقام فيها سنة وسبعة أشهر، من  حسد الحساد ومن كيد الكائدين. ولقد أهانه اثنان من رجالات بغداد يومذاك. أولهما الشريف المرتضى الذي استفزه المعري ببيت المتنبي الشهير (وإذا أتتك مذمتي من ناقص…) وثانيهما هو النحوي أبو الحسن علي بن عيسى الربعي. فكيف ينسى هذا العبقري الضرير المسالم والعاجز إساءة من أساء إليه ؟ سيما وأن أدبه الجم وتربيته ووضعه العام كلها لا تمكنه من أن يرد أو أن يقابل الإساءة بمثلها. فكل من أساء وكل من يزمع أن يسيء لهذا الطفل- الرجل الوديع إنما يتشكل أفعى بنابين في شعوره الباطن بلغة (فرويد) أولاً وفي شعره فيما بعد ثانياً. ثم أن الأفعى اللعينة هي التي أغوت أبانا آدم وزينت له طريق المعصية بالأكل من شجرة الخلد المحرمة فاستحق بذلك العقاب ومن ثم الطرد من الجنة:

[poem]
آدَمٌ سَـنَّ المَعاصـي ** وَعَلَّمَكُـم مُفارَقَةَ الجِنــانِ
[/poem]

كما قال المتنبي في القصيدة التي مدح بها (عضد الدولة البويهي) ويذكر في طريقه إليه (( شعب بوان )).

طه حسين ومرثية المعري

رغم إعجاب الدكتور طه حسين بالمعري فكراً وفناً وشخصاً، ورغم أنه كتب فيه أكثر من خمسمائة صفحة من مجلده الثالث (من تاريخ الأدب العربي) لكننا لا نرى إلا ذكراً عابراً للقصيدتين اللتين رثى بهما المعري أمه. ذكرهما في ثلاثة مواضع حسب، مجرد ذكر عابر مقتضب حتى أنه لم يكلف نفسه ذكر اسمي القصيدتين. هذا الأمر يدعو حقاً للدهشة. كما أنه لم يكن مقتنعاً بأن هاتين القصيدتين من الرثاء، بل وعدهما من الوصف. وعلى الضد من هذا نراه يسهب في شرح القصيدة التي رثى المعري فيها الفقيه الحنفي أبا حمزة والتي مطلعها:

[poem]
غَيْرُ مُجْدٍ في مِلّتي واعْتِقادي ** نَوْحُ باكٍ ولا تَرَنّمُ شادِ
[/poem]

حتى أنه قال فيها: ((نعتقد أن العرب لم ينظموا في جاهليتهم  وإسلامهم، ولا في بداوتهم وحضارتهم قصيدة تبلغ مبلغ هذه القصيدة في حسن الرثاء)). فهل يا ترى كان هذا هو السبب الرئيس الذي جعل الرجل يعزف عن تذوق أو شرح أو تقويم القصيدة الرائعة موضوعة البحث؟ أم أن هناك أسباباً أخرى جعلته يتجنب الخوض في نقد شعر صعب متشعب عويص التركيب والعمارة، وفيه ما يحتمل أكثر من وجه ويقبل أكثر من تفسير؟  فإذا كان هذا حال هذه القصيدة “سألت متى اللقاء” فالرجل معذور، لأن الأمر يتطلب جهداً مضاعفاً لا يقصر عنه عميد الأدب طه حسين لولا علة عينيه واضطراره أن يستعين بالآخرين قراءة وكتابة واستعادة و استزادة. وهذه أمور يكرهها وأن قبلها مكرهاً. إذا وجدنا العذر للرجل، فبأي عذر يقنعنا المبصرون من النقاد والكتاب ومحبي المعري، قديمهم وحديثهم، وهم عن أمثال هذه القصيدة معرضون؟ إذ لم أجد فيما قرأت تقويماً أو شرحاً حقيقياً لشعر الرثاء هذا وهو الذي يستحق الكثير من ذوي الذوق والاختصاص. إن هذه القصيدة لعالم قائم بذاته وبنيان مرصوص مرصوف عظيم الهيبة كثير الجمال وشديد التنوع ولا يخلو من آيات الغرابة والسحر والأسطورة.

ثمة أمر آخر يسترعي انتباه قراء أدب طه حسين: إعجابه بمرثية المتنبيء لجدته حد وصف القصيدة بأنها خالدة. علماً أنه لم يكن معنياً إلا بتقصي الغريب فيها والشاذ مما يمكن أن يستشف منه دليلاً على غموض أصل المتنبيء وأسرته ونشأته الأولى في الكوفة، بل وحتى وضاعة نسب الشاعر.

بالحاج والمعري

لقد ذكر الأستاذ محمد مصطفى بالحاج ثلاثة أبيات من مرثية المعري ” سألت متى اللقاء” ذكرها اقتباساً من سواه من النقاد كأمثلة للتدليل على الإغراب كما في البيت:

[poem]
وأذّنَتِ الجَنادِبُ في ضُحاها ** أذَاناً غيرَ مُنْتَظَرِ الإمامِ
[/poem]

ولا أعرف-حد علمي- أن شاعراً سواه من معاصريه أو ممن سبقه من شعراء العربية قد وظف حيوان “الجندب” في أشعاره. ثم كيف تؤذن الجنادب؟ أو البيت التالي:

[poem]
فصَرَّفَني فَغَيّرَني زَمَانٌ ** سيُعْقِبُني بِحَذْفٍ وادّغامِ
[/poem]

أجل، ذكر الناقد هذين البيتين وبيتاً ثالثاً آخر كأمثلة على مدى ولع وتمكن المعري من فن الألغاز والتورية و الإبهام والإيهام. ولذا فقد كانت إما موضع إنكار واستهجان كما هي حالة البيت الأول، أو أنها كانت موضع استحسان ورضى وإعجاب ومديح كما هي حالة البيت الثاني. على إني لا أعتبر تناول مثل هذه الأبيات بالنقد الجمالي الصرف و بالاحتكام إلى علم الهيئة والبديع والبيان وقواعد الصرف والنحو وما سواها، لا أعتبره نقداً نوعياً للقصيدة موضوعة البحث، وهي أساساً قصيدة رثاء كما نعرف.
ويظل رأيي السابق على ما هو عليه من أن القصيدة هذه قصيدة مظلومة إذ لم يلتفت إليها – إلى حد علمي – أحد من النقاد وأنها لحرية بكل اهتمام لفرادتها، وما أشاعت من أجواء، وما بثت من مشاعر تتصل ضعفاً وقوة بأدق أحاسيس الإنسان وهو يتملى شؤون الحياة والموت ويحيا مأساة موت أعز إنسان لديه، إذ ليس للشاعر من أحد بعد موت أبيه سوى أمه. لا تخلو القصيدة بوجه عام من الغموض. ومن قال أن العالم واضح بالنسبة لضرير؟ والمسألة كذلك صحيحة بالنسبة للعالم الآخر. فالدنيا والآخرة عالمان غامضان للمبصر وبدرجة أشد للكفيف. ثم هل يستطيع رجل متزن حصيف الإعراب عن مشاعره بشكل صريح سيما إذا اتصل الأمر بعواطف الحزن وتابعه البكاء؟ وهل من المعقول والمقبول أن يبكي رجل بلغ أشده أو أنه قد بلغ مبلغ الرجال؟
إذن فالهروب إلى الرموز والاستعارات والتورية وما إليها، أجدى وأكثر قبولاً من إشهار دموع الحزن التي قد يلومه فيها أكثر من لائم. فمن ذا يلوم الشاعر إذا تذكر أباه الراحل وهو يرثي والدته؟ ومن ذا الذي يلومه اذا ما ذكر خاله المتوفى وكان شقيقاً لأمه (وبكت أخاها)، ثم وهو في أشد حالات الضعف والحزن، ما الذي يمنع استرساله مع أحاسيس الشجن والمحن التي لاقاها من الخصوم والحساد، وخاصة أولئك الذين امتحن بهم في بغداد قبيل وفاة أمه مباشرة. يدعى إلى مجلس أحد أدباء وأشراف بغداد ومن ثم يستفز أو يطرد أو يهان. وفي هذا المكان من مؤلم الذكريات ومشجيها لا يشخص أمام بصيرته من المخلوقات إلا الأفعى الرقطاء، فإنها تقتل وهي تتبدل بتغييرها لجلدها.

القصيدة كثيفة بمشاعر الحزن والخوف ووميض العتاب وشرارات الحنق والملل والسأم، صاغها الشاعر الكفيف فأبدع الصياغة ما سمحت له حالته الجسمانية والنفسانية وقساوة ظرف عماه. والعجيب أن المعري لم يكن يتذكر إلا اللون الأحمر من بين سائر الألوان المعروفة.

خلاصة القول

طالما أن القصيدة محددة الغرض – وهي هنا رثاء – فيجب أن ينصب النقد العام على موضوع القصيدة الخاص. وتقويم بضعة أبيات منها من وجهات نظر أخرى لا تمت لموضوع القصيدة بصلة، مهما بدا هذا التقويم ضرورياً من وجهة نظر علم الجمال، فإنه لا يغني بأية حال عن النقد المنصب على مجمل القصيدة كبناء موحد متكامل. والجزء لا يلغي الكل، بل وحتى لا يعوض عنه.

عن الأخبار العراقية