موقف أبي العلاء المعري من الدهر
/فرهاد ديو سالار
أستاذ جامعي في جامعة آزاد الإسلامية
شعر الدهريات
يفكر الإنسان دائماً في حالة الكون وألغازه وأسراره؛ من أين أتى؟ ولماذا؟ وإلى أين يذهب؟. يفكر ويعيش الخوف من المجهول الغامض. يدرك أنه سيعيش حياة قصيرة متغيرة، ويعلم أن البقاء مستحيل، فيصاب بالقلق الوجودي. يؤمن بعضهم بأن الدهر هو سبب الهلاك؛ وهو غالب وناظر على الأمور كلها، ويضيفون إليه كل حادثة فيحيلون عليه باللوم والعتاب؛ كأنه مسؤول عن أعمالهم، هذا اللون الشعري المطوي على ذم الدهر سمي شكوى الدهر أو الدهريات، حيث أصبحت فناً مستقلاً في العصر العباسي الثالث وانصرف كثير من الشعراء إلى نظمها والإكثار منها. هنا نريد أن نناقش موقف أبي العلاء المعري من الدهر.
الكلمات الرئيسة: الدهريات، شكوى الدهر، ذم الدهر، العصر العباسي الثالث، القلق الوجودي.
شكوى شعراء العصر العباسي من الدهر
بعد أن فسدت الأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية في العصر العباسي الثالث، انتشرت الفتن وعم الخراب والفوضى، فازدادت الأفكار التشاؤمية في المجتمع، ولجأ الناس إلى التشكي فنظموا أبياتاً مستقلة في شكوى الدهر وذمه، واعتادوا ذلك حتى غلب على كلامهم فاستقل هذا الفن الشعري وسمي بالدهريات.
شعر الدهريات شعر وجداني مرتبط بمكنون النفس وآلامها ومعاناتها وقد رسم المخاطب صوراً جليّة مثّلَت شرائح المجتمع في العصر العباسي. وهو شعر صادق لم ينظمه أصحابه رغبة في منصب أو تزلّفا لحاكم؛ إنما كان نبض فؤاد واضطراب جوانح كشف كثيراً من الدلالات النفسية والاجتماعية والسياسية.
سار الشعراء في العصر العباسي على نهج سابقيهم الذين أكثروا الشكاية من الدهر وحوادثه التي أوهنت قواهم ونسبوا للدهر كلّ بلاء وسوء متناسين حكم الشرع في النهي عن سبِّ الدهر وحسبوه عدو الأحرار وكرام النفوس كما هي الحال عند المتنبي، حيث بلغ من حنقه عليه أنه اعتبره غريماً حياً يطارده ويعاكسه.
في العصر العباسي قلما تجد شاعراً متفائلاً، ويمكن أن نعد أبا تمام شاعراً مع نظرة إيجابية للدهر. مع أن حياته كانت مليئة بالآلام والمشاكل وأحس قسوة الدهر وشقائه، ولكنه تصبّر واعتقد أن الإنسان مادام يرى الأمل في نفسه عليه أن يجاهد حتى يصل إلى هدفه.
التشاؤم النفسي والاجتماعي عند الشاعر العباسي
يمكن أن نقسم تشاؤم الشاعر العباسي بالنسبة لمسألة الدهر والموت إلى قسمين: التشاؤم النفسي والتشاؤم الاجتماعي.
وأما التشاؤم النفسي عند الشعراء العباسيين، فيجعلهم مشغولين بأنفسهم ويعكفون على آلامهم وهذا اللون من شعر المعاناة والألم الذي يهتم الشاعر العباسي ببيان آلامه النفسية ينبع جميعاً من أصل واحد وهو الشعور بالفناء وعبثية الدهر ويتخذ الموقف السلبي ويبدأ بالشكوى عن الدهر ويتبرم به.
ويمكن أن نرجع شكوى بعض الشعراء العباسيين إلى إدراكهم أو شعورهم بنقص في أجسامهم وضعفهم ويعانون من العقد النفسية مثل عقدة الشعور بالنقص وعقدة أوديب. مثل ما يشعر أبو العلاء المعري وابن الرومي بضعفهما الجسمي حيث يجعلان أدبياتهما مبنية على التشاؤم لأن الدهر يحرمهما من لذة الحياة والدنيا.
أما التشاؤم الاجتماعي عند الشاعر العباسي، فينبع من مجتمعه ولا من نفسه وحده. لأن الشاعر العباسي عاش في عصر شديد الاضطراب سياسياً، اجتماعياً، اقتصادياً وعقائدياً. إنّ المصائب أحاطت به، وكان لابد لهذا الاضطراب أن ينعكس في أشعاره ويترك آثاره فيها. وقد تأثر الشعراء بما أصاب الناس من خراب وتعذيب وإذلال ودمار، بينما انتشر الترف في بيوت الخلفاء والأمراء.
على سبيل المثال أبو العلاء، المتنبي، الشريف الرضي وغيرهم من الشعراء لم يكن شعورهم وفقاً على خلجات أنفسهم فقط؛ فهم قد شاركوا الشعب في مصائبهم وسمعوا شكاوى المظلومين والفقراء وعالجوا مشاكل مجتمعهم مع أنهم عانوا بذاتهم، لكنهم لم يغفلوا عن المجتمع الذي عاشوا فيه.
من الشکاوى السائدة في العصر العباسي هي: الشكوى من السجن والاغتراب، والشكوى من المرض والآفات والشکوی من أمراض الكِبَر وفقد البصر، والشكوى من الآفات: آفة الشباب الشيب وآفة الحياة الموت … وإلخ.
عصر المعري
ولد المعري في معرة النعمان في سوريا سنة 363-449هـ 974-1057م أصابه الجدري وله أربع سنين، فكف بصره وهو طفل، وكان يقول: “لا أعرف من الألوان إلا الأحمر لأني ألبست في الجدري ثوباً مصبوغاً بالعصفر”.
وجد المعري في محبسه بالمعرة من الشهرة مالم يجدها في بغداد، فراسله العلماء والأدباء والأمراء، وقصده طلاب العلم من كل مكان يغترفون من علومه وفنونه.. عاصر أبو العلاء المعري تشكيل دويلات البويهيين والحمدانيين والمرداسيين والفاطميين وشاهد التطاول الدامي بينها. وفي ظل تلك الأوضاع السياسية القائمة انعدم العدل والإنصاف وساد الطغيان والظلم، وزالت رحمة الراعي على الرعية، وحلت محلها الغلظة والخشونة.
أما الحياة الاقتصادية فلم تكن بأفضل من الحياة السياسية فإن الضرائب زادت واضطربت تبعا لكثرة الولاة الفاطميين، وعمل كل منهم على كل ما يستطيع من الأموال لنفسه، فكانت تدخل على الضرائب والجنايات زيادات ترهق الشعب إرهاقاً شديداً وما أحسن ما صور به أبو العلاء ذلك الظلم الذي يقع على الناس إذ يقول مصوراً حال عصره:
وَأَرى مُلوكاً لا تَحوطُ رَعيَّةً | ** | فَعَلامَ تُؤخَذُ جِزيَةٌ وَمُكوسُ |
والحياة الاجتماعية هي الأخرى أصابها الوهن فضعفت الثقة بين الأفراد فانتشر الفساد وعمت الفوضى أرجاء البلاد. وقد أدت الأوضاع القائمة إلى تحرر في الدين والفرائض، فأصبح الدين أضعف من أن يسيطر على النفس والضمائر وأصبح الإنسان في عصر لا يفكر إلا في مصلحته ولو على حساب الآخرين.
تشاؤم المعري
عاش المعري حياة طويلة مضطربة فيها قلق وتشاؤم ومرارة وشكوى، وكان لعناصر شخصيته أثر في توجيه تفكيره، وصبغ آرائه بصبغة خاصة ميزت المعري عن غير من الشعراء والأدباء وخاصة أن قرر المعري لزوم بيته وانصرافه عن كل شيء في الحياة إلى النقد والتهكم دون أن يحاول الإصلاح الذي يقترح له سبيلاً بل يرى أن الإصلاح أمر مستحيل، ومن يحاول ذلك فإن مصيره الفشل.
والمعري شديد التشاؤم، شديد الكراهية للحياة وملذاتها، وكان لذلك التشاؤم دوافع متعددة أهمها: عماه الباكر، فقده لأبيه، نكباته في بغداد، فقده لأمه، مزاجه السوداوي وفساد الحالة السياسية في عصره. وإن كان المعري يتظاهر بالصبر والتجلد، ولكن يخونه تجلده أحياناً فتراه يصرح بالشكوى من العمى.
وَكَمِ اِشتَكَت أَشفارُ عَينٍ سُهدَها | ** | وَشَفاؤُها مِمّا أَلَمَّ شِفارُ |
وَلَطالَما صابَرتُ لَيلاً عاتِماً | ** | فَمَتى يَكونُ الصُبحُ وَالإِسفارُ |
ويقول:
[poem]عَمى العَينِ يَتلوهُ عَمى الدينِ وَالهُدى | ** | فَلَيلَتِيَ القُصوى ثَلاثُ لَيالي |
قلقه الوجودي
كل هذه العوامل أثرت في نفسية أبي العلاء فجعلته ينظر إلى الحياة نظرة قلق وتشاؤم، دفعته إلى العزلة وحبس نفسه في بيته، وجعلته يتساءل عن حقيقة الحياة وأسرار الوجود ومشكلات الخير والشر وعناء الحياة وراحة الموت، وراح يصور حالة عصره، بصدق نابع من تجربته المؤلمة في مجتمع تحكمه المادة، والتعالي على الآخرين.
الشر فطري
يری المعري أن المصائب سببها الناس وأخلاقهم وأفعالهم السيئة، ونتج معه أن الإنسان شرير بطبعه، وأن الفساد غريزة فيه. وجميع البشر في نظره سواء في قبح الطباع لأنهم ثمرة فساد، وهكذا، فكل حي على الأرض شرير كاذب، يقول:
[poem]إِن مازَتِ الناسُ أَخلاقٌ يُعاشُ بِها | ** | فَإِنَّهُم عِندَ سوءِ الطَبعِ أَسواءُ |
أَو كانَ كُلُّ بَني حَوّاءَ يُشبِهُني | ** | فَبِئسَ ما وُلِدَت في الخَلقِ حَوّاءُ |
ويرى أن تلك الطبيعة الفاسدة إنما هي قضاء، قضاه الله على بني آدم وما الناس في هذه الدنيا إلا كلاباً يتصارعون عليها رغم أنها لا تتعدى أن تكون جيفة نتنة.
[poem]رَأَيتُ قَضاءَ اللَهِ أَوجَبَ خَلقَهُ | ** | وَعادَ عَلَيهِم في تَصَرُّفِهِ سَلبا |
وَقَد غَلَبَ الأَحياءَ في كُلِّ وُجهَةٍ | ** | هَواهُم وَإِن كانوا غَطارِفَةً غُلبا |
كِلابٌ تَغاوَت أَو تَعاوَت لِجيفَةٍ | ** | وَأَحسَبُني أَصبَحتُ أَلأَمَها كَلبا |
أَبَينا سِوى غِشِّ الصُدورِ وَإِنَّما | ** | يَنالُ ثَوابَ اللَهِ أَسلَمُنا قَلبا |
وَأَيَّ بَني الأَيّامِ يَحمَدُ قائِلٌ | ** | وَمَن جَرَّبَ الأَقوامَ أَوسَعَهُم ثَلبا |
ويشدد ويقول:
[poem]إِذا أَقبَلَ الإِنسانُ في الدَهرِ صُدِّقَت | ** | أَحاديثُهُ عَن نَفسِهِ وَهوَ كاذِبُ |
أَتوهِمُني بِالمَكرِ أَنَّكَ نافِعي | ** | وَما أَنتَ إِلّا في حِبالِكَ جاذِبُ |
وَتَأكُلُ لَحمَ الخِلِّ مُستَعذِباً لَهُ | ** | وَتَزعُمُ لِلأَقوامِ أَنَّكَ عاذِبُ |
والإنسان بئس المعاشر لما يتصف به من الغدر وحب السب للآخرين:
[poem]بَني آدَمٍ بِئسَ المَعاشِرُ أَنتُمُ | ** | وَما فيكُمُ وافٍ لِمُقتٍ وَلا حُبِّ |
وَجَدتُكُمُ لا تَقرَبونَ إِلى العُلا | ** | كَما أَنَّكُمُ لا تَبعُدونَ عَنِ السَبِّ |
وما في هذه الدنيا من صغير وكبير إلا أثوم غشوم ميال إلى الشر فخور بفعل الخيرات يتبع المن والأذى حيث يقول:
[poem]لَعَمرُكَ ما في الأَرضِ كَهلٌ مُجَرِّبٌ | ** | وَلا ناشِئٌ إِلّا لِإِثمٍ مُراهِقُ |
إِذا بَضَّ بِالشَيءِ القَليلِ فَإِنَّهُ | ** | لِسوءِ السَجايا بِالتَبجُّحِ فاهِقُ |
وهذه طبيعة البشر حب الفساد والشر، فيا ليتهم لم يولدوا، يقول:
[poem]يا لَيتَ آدَمَ كانَ طَلَّقَ أُمَّهُم | ** | أَو كانَ حَرَّمَها عَلَيهِ ظِهارُ |
وَلَدَتهُمُ في غَيرِ طُهرٍ عارِكاً | ** | فَلِذاكَ تُفقَدُ فيهِمُ الأَطهارُ |
هكذا ينظر المعري إلى الطبيعة البشرية. إن الإنسان شرير بطبعه، والفساد غريزة فيه، ولذلك لم ينتفع إصلاحاً ولم يرج لآلامه شفاء. ولا شك أن ما لاقاه المعري من آلام في حياته وشرور في عصره هي التي قوت في نفسه هذا الرأي، مما دفعه إلى اعتبار الناس جميعهم أشرارا وأنّ الخير معدوم فيهم، ولا فائدة في إصلاحهم ولا حلّ إلاّ في اعتزالهم وهجرهم.
وفي رأي أبي العلاء المعري في الدنيا أنها فاسدة، وأنه من خستها اشتق لؤم الإنسان، فلم يزل يذمها ويصفها بصفات القبح، حتى إنّه ليعد أكثر الشعراء ذماً للدنيا وبغضاً لها، حيث امتلأ بها كتابه اللزوميات فوصفها بأنّها دار آلام وعذاب وينقدها نقداً ساخراً في جرأة وصراحة.
خَسِستِ يا أُمَّنا الدُنيا فَأُفِّ لَنا | ** | بَنو الخَسيسَةِأَوباشٌ أَخِسّاءُ |
وَقَد نَطَقتِ بِأَصنافِ العِظاتِ لَنا | ** | وَأَنتِ فيما يَظِنُّ القَومُ خَرساءُ |
يقول طه حسين عن لزوميات المعري: “إنها إلى أن تكون كتاباً فلسفياً أقرب منها إلى أن تكون ديواناً شعرياً، وعمد بشعره إلى إثبات النظريات الفلسفية في الطبيعة والرياضة والألوهية والأخلاق”.
يقول أبو العلاء في ذمّ زمانه وأهل زمانه:
[poem]تَوَرَّعوا يا بَني حَوّاءَ عَن كَذِبٍ | ** | فَما لَكُم عِندَ رَبٍّ صاغَكُم خَطَرُ |
يرى المعري أن الزمان غدار، وأنه لا أمل في إصلاح الحياة:
[poem]فَلا تَأمَل مِنَ الدُنِّيا صَلاحاً | ** | فَذاكَ هُوَ الَّذي لا يُستَطاعُ |
مادية المعري
يرى المعري أن الزمن قديم كالمادة، ولا شك أنه كان يرتبط الصلة الوثيقة بالفلسفة اليونانية في مبدأ قدم العناصر، وقدم الزمان والمكان، يقول:
[poem]قُلتُم لَنا خالِقٌ حَكيمٌ | ** | قُلنا صَدَقتُم كَذا نَقولُ |
زَعَمتُموهُ بِلا مكانٍ | ** | وَلا زَمانٍ أَلا فَقولوا |
هَذا كَلامٌ لَهُ خَبيءٌ | مَعناهُ لَيسَت لَنا عُقولُ |
جبرية المعري
اعتقد المعري بالجبرية، أن الإنسان يولد ويهرم ويعيش ويسير مكرهاً؛ وأن الإنسان لا يملك حق الاختيار فهو أسير مغلول مقود إلى الشر بأعنة القدر:
[poem]ما بِاِختِياري ميلادي وَلا هَرَمي | وَلا حَياتي فَهَل لي بَعدُ تَخييرُ | |
وَلا إِقامَةَ إِلّا عَن يَدَي قَدَرٍ | وَلا مَسيرَ إِذا لَم يُقضَ تَسييرُ |
كما يرى في القضاء والقدر:
[poem]وَالدَهرُ لا يَدري بِمَن هُوَ كائِنٌ |
** | فيهِ فَكَيفَ يُلامُ فيما كانا |
نَبكي وَنَضحَكُ وَالقَضاءُ مُسَلَّطٌ | ** | ما الدَهرُ أَضحَكَنا وَلا أَبكانا |
نَشكو الزَمانَ وَما أَتى بِجِنايَةٍ | ** | وَلَوِ اِستَطاعَ تَكَلُّماً لَشَكانا |
الشك عند المعري:
الشك هو قوام النظرية الفلسفية عند أبي العلاء، إلا في حقيقتين هما: الله والعقل، لذلك هو حائر في أسباب الموت والوجود والخلق، والقارىء يلمس يأسه وقنوطه من خلال أسئلته الدالة على شكه وارتيابه في لزومياته، حيث يضع المعري سلطة أخرى بجانب الله هي القدر، وهذه السلطة غاشمة ظالمة قوتها لا تُدفع ولا تُرد. وهو أحياناً ينسب الظلم إلى القدر والزمان، كما في قوله:
[poem]وَهُوَ الزَمانُ قَضى بِغَيرِ تَناصُفٍ | ** | بَينَ الأَنامِ وَضاعَ جُهدُ الجاهِدِ |
مذهبه الجبري:
وإيمان المعري بالقدر ناجم عن فلسفته الجبرية، كم من مرة صرح بأنه على هذا المذهب فالإنسان في رأيه مجبر تحركه الأقدار كالريشة في مهب الريح لا يستطيع إفلاتاً منها، وكل محاولة للنجاة مكتوب لها الإخفاق.
يغدو، على دِرْعهِ، الزرّادُ يُحكِمُها، | ** | وهل يُنجّيه، ممّا قُدّر، الزرَدُ؟ |
ايمانه بالله خالقاً للوجود:
يعترف المعري بأنه يجهل من خلق البشر، ولكنه على ثقة بأن هنالك إلهاً قديراً هو المنعم والمفضل على عباده سواء آمنوا به أم كفروا:
[poem]تَوَرَّعوا يا بَني حَوّاءَ عَن كَذِبٍ | ** | فَما لَكُم عِندَ رَبٍّ صاغَكُم خَطَرُ |
لَم تُجدِبوا لِقَبيحٍ مِن فِعالِكُمُ | وَلَم يَجِئكُم لِحُسنِ التَوبَةِ المَطَرُ |
وكل ما يحرزه المرء في الحياة من نجاح وفوز فإنما هو بفضله ومنّه، لا بسعي الإنسان وجهده:
[poem]لَم تَبلُغِ الآرابَ شِدَّةُ ساعِدٍ | ** | ما لَم يُعِنها اللَهُ بِالإِسعادِ |
العقل والقدر:
كما يعترف أبو العلاء بحرية الوجود، والعقل هو الدليل؛ حيث يقتضي وجود العقل قدرة الإنسان على البحث والاختيار، ولو كانت الحياة جبراً تاماً لكان وجوده ضرباً من العبث، ولكان البشر بلا عقول، بيد أن دور العقل أمام دور القدر:
[poem]الصَمتُ أَولى وَما رِجلٌ مُمَنَّعَةٌ | ** | إِلّا لَها بِصُروفِ الدَهرِ تَعثيرُ |
وَالعَقلُ زينٌ وَلَكِن فَوقَهُ قَدَرٌ | ** | فَما لَهُ في اِبتِغاءِ الرِزقِ تَأثيرُ |
ذم الدنيا وطلب الموت
كان الموت هو الأمل الوحيد للمعري لخلاصه من دنيا الشرور والآثام. فلم يعد الموت لعنة، بل هو قدر محتوم لا يفلت منه الغني ولا الفقير، لا القوي ولا الضعيف، لا الحاكم ولا المحكوم، لا الطيب ولا الشرير، لا المريض ولا الصحيح. بل لعله حقيقة الوجود الوحيدة، فالحياة سريعة الإنطفاء ولا يمكن الاطمئنان إليها. لذا لم يعد الموت مخيفاً له، وجعل تحرره من خوف الموت أن قويت إرادته وزادت سخريته من الدهر وبات واثقاً من اختياره وصوابه وحكمته. وارتفعت قدرته على تحمل المشاق فصار أشدّ صلابة ومتانة. بالغ المعري في ذم الدنيا وتحقيرها قولاً وفعلاً، فامتنع عن أية ملذة فيها، وحذر من الجري وراءها، وخاصة لصغار السن. يقول:
[poem]فَلا تَطلُبِ الدُنِيا وَإِن كُنتَ ناشِئاً | ** | فَإِنّيَ عَنها بِالأَخلّاءِ أَربَأُ |
وَما نُوَبُ الأَيّامِ إِلّا كَتائِبٌ | ** | تُبَثُ سَرايا أَو جُيوشٌ تُعَبَّأُ |
فالدنيا ليست دار قرار إقامة والرحيل منها أولى من البقاء، يقول:
[poem]لَعَمرُكَ ما الدُنيا بِدارِ إِقامَةٍ | ** | وَلا الحَيُّ في حالِ السَلامَةِ آمِنُ |
وَإِنَّ وَليداً حَلَّها لَمُعَذَّبٌ | ** | جَرَت لِسِواهُ بِالسُعودِ الأَيامِنُ |
هكذا الدنيا عند المعري، لا خير فيها، ملؤها الشرور والآثام، أفرغت شرها على الإنسان و الحيوان على حد سواء، فكان ترحيبه بالموت:
[poem]حَياتِيَ تَعذيبٌ وَمَوتِيَ راحَةٌ | ** | وَكُلُّ اِبنِ أُنثى في التُرابِ سَجينُ |
ولما لم ير المعري في هذه الدنيا سبيلاً للشفاء من ظلمها وعدوانها، حيث لم ينفع اعتزاله للناس ولا تركه للشهوات والاكتفاء بالقليل من الزاد، بدأ يرى كل ما حوله يلفه الحزن ويبكي، حتى تغاريد الطيور:
[poem]لَعَمرُكَ ما بي نُجعَةٌ فَأَرومَها | ** | وَإِنّي عَلى طولِ الزَمانِ لَمُجدِبُ |
حَمَلتُ عَلى الأُلى الحَمامَ فَلَم أَقُل | ** | يُغَنّي وَلَكِن قُلتُ يَبكي وَيَندُبُ |
وَذَلِكَ أَنَّ الحادِثاتِ كَثيرَةٌ | ** | وَغالِبُهُنَّ الفَظُّ لا المُتَحَدِّبُ |
الموت عيد
ولشدة كراهيته للحياة اعتبر الموت عيداً يسعد به وينتظره بفارغ الصبر، خلاف الفطرة البشرية المجبولة على حب الدنيا وكراهية الموت، يقول:
[poem]أَنا صائِمٌ طولَ الحَياةِ وَإِنَّما | ** | فِطري الحِمامُ وَيَومَ ذاكَ أُعَيِّدُ |
والعاقل المتدبر عند المعري لا راحة له في حياة عدمت منها مكارم الأخلاق إلاّ الموت. يقول:
[poem]تَعالى رازِقُ الأَحياءِ طُرّاً | ** | لَقَد وَهَتِ المُروءةُ وَالحَياءُ |
وَما لي لا أَكونُ وَصيَّ نَفسي | ** | وَلا تَعصي أُمورِيَ الأَوصِياءُ |
والموت أفضل من طول العمر والغنى وهو راحة من شقاء الدنيا:
[poem]مَوتٌ يَسيرٌ مَعهُ رَحمَةٌ | ** | خَيرٌ مِنَ اليُسرِ وَطولِ البَقاءِ |
وَقَد بَلَونا العَيشَ أَطوارَهُ | ** | فَما وَجَدنا فيهِ غَيرَ الشَقاء |
الموت راحة
يتمنى المعري الموت ولا يكرهه كما الناس، يقول:
[poem]إِن يَقرُبُ المَوتُ مِنّي | ** | فَلَستُ أَكَرَهُ قُربَه |
وَذاكَ أَمنَعُ حِصنٍ | ** | يُصَبِّرُ القَبرَ دَربَه |
مَن يَلقَهُ لا يُراقَب | ** | خَطباً وَلا يَخشَ كُربَه |
الموت خلاص
لم يكتف المعري بتمني الموت وجعله منقذاً له من الدنيا، بل اعتقد بأنّ كل الإثم يكون في إنجاب الأبناء وتعريضهم لجميع ألوان الشقاء، متمنياً للوليد ألا يولد وللحي أن يفنى. يقول:
[poem]وَلَيتَ وَليداً ماتَ ساعَةَ وَضعِهِ | ** | وَلَم يَرتَضِع مِن أُمِّهِ النُفَساءِ |
حتى أنه أوصى بكتابة قوله الشهير على قبره:
[poem]هذا جناهُ أبي عليَّ | ** | وما جنيتُ على أحدْ |
المعري النباتي
اختار المعري أن يكون نباتياً؛ غضباً من الاعتداء على الحيوان. فالإنسان لم يكتف بظلم أخيه الإنسان بل تعداه إلى ظلم الحيوان والجور عليه، فهجر أكل اللحوم وكل مايننتجه الحيوان، وهو نادم على عمره الفائت الذي شارك فيه الناس ظلمهم للحيوان. ويعتقد دارسون ومنهم طه حسين عميد الأدب العربي أن أبا العلاء تأثّر بالفلسفة اليونانية بينما كنح البعض إلى تأثره بالفلسفة الهندية، فاجتنب أكل اللحوم والبيض واللبن وحرم إيلام الحيوان، كما في قوله:
[poem]فَلا تَأكُلَن ما أَخرَجَ الماءُ ظالِماً | ** | وَلا تَبغِ قوتاً مِن غَريضِ الذَبائِحِ |
وَأَبيَضَ أُمّاتٍ أَرادَت صَريحَهُ | لِأَطفالِها دونَ الغَواني الصَرائِحِ | |
وَلا تَفجَعَنَّ الطَيرَ وَهيَ غَوافِلٌ | بِما وَضَعَت فَالظُلمُ شَرُّ القَبائِحِ |
الشعراء يبحثون دائماً عن المجد والثروة ناسين أن الحياة قصيدة وأن الموت لهم بالمرصاد. لا يترددون في بيع ضميرهم وسفح ماء وجههم وتمسحهم بأعتاب الملوك، لكن المعري أدرك مبكراً أن التعلق بالحياة يؤدي في النهاية إلى الضرر والندامة.
العوامل المؤدية إلى تشاؤمه
يرجع تشاؤم المعري إلى فقده البصر، الأم، الأب، الفقر، ونحول جسده، وقبح وجهه، وإساءة الناس إليه ورفضهم لأفكاره الفلسفية اليونانية الهندية وغيرها، وما فيها من ثورة على الأوضاع السائدة. يقول شاكياً تصبره وتجلده:
[poem]وكم اشتكتْ أشفارُ عينٍ سُهدَها، | ** | وشفاؤها ممّا ألمّ شِفار |
ولطالما صابرْتُ ليلاً عاتماً، | ** | فمتى يكونُ الصّبحُ والإسفار؟ |
ويقول أيضاً:
[poem]عَمى العَينِ يَتلوهُ عَمى الدينِ وَالهُدى | ** | فَلَيلَتِيَ القُصوى ثَلاثُ لَيالي |
تأثره بالفيلسوف اليوناني أبيقور:
يقول طه حسين بأن المعري تأثر بالفيلسوف اليوناني أبيقور الذي انتهى إلى رفض اللذة عملاً؛ لأنه لم يستطع أن يحصلها دون الألم، وهذا ما تدل عليه اللزوميات في مواضع كثيرة منها، قول أبي العلاء:
[poem]وَقالَ الفارِسونَ حَليفُ زُهدٍ | ** | وَأَخطَأَتِ الظُنونُ بِما فَرَسنَه |
وَلَم أُعرِض عَنِ اللَذّاتِ إِلّا | ** | لِأَنَّ خِيارَها عَنّي خَنَسنَه |
الخاتمة
وقصارى القول أن أبا العلاء ابتدأ جبرياً وانتهى جبرياً، وعندما حاول أن يفتح باب الحرية وأعمل العقل، وجد أن العقل لا يغير من طبيعة الناس شيئاً ورأى أن الشر شامل بين الناس مشترك أما الخير فطارئ غير مشترك وأن اللؤم موثق بالطبع البشري فأسرف الشاعر في التطير وامتلأ شعره بأنغام التشاؤم، كما رأى في الحياة سلسلة من النوائب والحرمان تصل بين مهده ولحده، لذلك أثر العزلة وعاش ينتظر الموت.