رأس المعري ومسـقطه
مصطفى أبو شمس
كاتب و صحفي سوري
شاخَ البيت بعد أن تم هجره منذ العام 2008، ثم أُسقِطَ رأسُ تمثال صاحبه عام 2013، واخترقَت رصاصتان عباءتَه التي دثَّرَهُ بها النحات السوري محمد قباوة، وبقيَ قبره وحيداً تتصدّره عبارته التي أوصى بكتابتها: «هذا جناه أبي عليّ…. وما جنيت على أحد»، إلى أن عادت روح الحياة من جديد إلى البيت منذ العام 2014.
كان البيت الذي دُفِنَ صاحبه في فنائه قد تحول إلى مسجد، ثم إلى دار للثقافة يحجّ إليها أهل العلم والفكر في ستينيات القرن الماضي. وفي عهد الأسد الابن، عهد «مسيرة التطوير»، انتقمت «الحداثة» من إرثه التاريخي، فتم سحب البساط من تحته إلى المركز الثقافي الجديد بحجارته البيضاء وصالاته الواسعة، ليبقى الضريح بارداً وحيداً رهين محابسه، التي أُضيفت إليها أقفال جديدة وباب حديدي مغلق وأشجار تناثرت أوراقها لتملأ أرجاء المكان، بعد أن ضنّت وزارة الثقافة عليه حتى بمُستخدمٍ يسقي نباتاته ويرطب بالماء ذكراه، وكأن الزمن يعيد اتهامه بالزندقة، ويحاربه لخياله الذي أملى علينا 10751 بيتاً من الشعر في لزومياته، ورسالةً للغفران محاكياً بها يوم القيامة لتترجم إلى معظم لغات العالم، ناهيك عن عشرات الدواوين والمؤلفات التي ما زالت محط أنظار الدارسين والفلاسفة.
كان تمثال أبي العلاء يجلس على كرسي حجري في مدخل مدينته معرة النعمان، حظه العاثر أوقعه في مدينة أحبته فيها الأجيال الماضية، وتمثَّلَ أبناؤها قصصه في سلوكهم وأقوالهم وأشعارهم وكلامهم اليومي، ليستعيروه مفاخرة كلما مرّ من أمامهم ذكره: «نحن من معرة النعمان، مدينة أبي العلاء»، ونسيت أجيالها الجديدة حكاياته ومفاخرة آبائهم به.
معرة النعمان
تعود المعرة باسمها إلى قرون كثيرة سبقت رهين المحبسين، فحملت اسم «مغرتا» أي المغارة بالسريانية، وذُكرت في التاريخ باسم «أرا» و«مار» و«العواصم» كما كان يحلو لأبي العلاء تسميتها: «متى سألت بغداد عني وأهلها…. فإني عن أهل العواصم سائل»، إلاّ أن شهرته فاقت قِدَمَ المدينة، فباتت تستند على اسمه كلاحقة للشهرة، أما لاحقة النعمان فقد قيل إنها ترجع لأيام قضاها النعمان بن بشير في المدينة بعد موت ابنه أثناء مروره في المدينة، فحملت المعرة حزنه اسماً على مرّ العصور، وهي المدينة التي لا تنسى حزنها أبداً.
«ذلك الارتباط الوثيق بين المدينة وشاعرها نسيه كثيرٌ من أبناء الأجيال السورية الجديدة، كما نسيت مدينتَه حكومةُ الأسد، وأهملت آثارها ومفكريها»، هكذا بدأ العم أبو صالح، بائع الخضار الذي جاورَ الضريح منذ 70 سنة خلت، كلامه: “نحن منسيون كما هو، مهملون كمدينتنا، التي اكتسبت بعضاً من شهرتها لوقوعها على الطريق الدولي بين دمشق وحلب، فبات الناس يدخلونها مروراً في حافلات، يشترون بعضاً من الخضار والحلويات، دون أن يلتفتوا لصاحبها، ومقاماتها، وآثارها ومتاحفها.
الناس تغيروا، قبلاً كنا نرى السياح من كل مكان، يأتون إلينا، يزورون المسجد الكبير الذي يحاكي في بنائه المسجد الأموي، ومقام النبي شيث، ومسجد عمر بن عبد العزيز، ولا يمكن لأحدهم أن يغادر قبل أن يسكن لساعات في متحف الفسيفساء ودار الثقافة، حيث ضريح أبي العلاء وكتبه ومقتنياته”.
ضريح أبي العلاء
البناء المحيط بالضريح، الذي صار لاحقاً دار الثقافة، أو المركز الثقافي القديم في معرة النعمان، كان قد بُنيَ في أربعينيات القرن الماضي احتفاءً بألفية أبي العلاء المعري.
في العام 1944، وكانت سوريا تحت الانتداب الفرنسي وقتها، كان الشاعر الجواهري في دمشق، وعلم مصادفةً على أحد حواجز التفتيش أنه ضمن الوفد العراقي المقرر حضوره مهرجان ألفية أبي العلاء، ولم يكن قد أُبلغ بذلك رسمياً لأنه كان وقتها على خلاف مع هيئة مراقبة المطبوعات العراقية. أسبوعٌ واحدٌ كان يفصله عن المناسبة، ولم يستطع وقتها كتابة شيء، إلى أن استضافه الشاعر عمر أبو ريشة معه في رحلته إلى لبنان ليكتب هناك مطلع قصيدته: «قِفْ بالمعَرَّةِ وامسَحْ خَدَّها التَّرِبا…. واستَوحِ مَنْ طَوَّقَ الدُّنيا بما وَهَبا»، ثم يكملَ قبل يوم واحد أبياتها المئة التي ألقاها واضعاً يده على كتف الأديب طه حسين، قائلاً إن الأخير يشبه أبا العلاء من حيث الشكل والفكر، وإنه لم يحضر تكريماً مؤثراً كتكريم أبي العلاء، ليقول فيه:
أقامَ بالضَّجَّةِ الدُّنيا وأقعدَها شيخٌ أطلَّ عليها مُشفقاً حَدِبا
دار الثقافة التي يرشح الماء من سقفها الآن، بنيت وقتها على مساحة قدرها 500 متر مربع وسط شارع يحمل اسم أبي العلاء، لها واجهة معمارية مؤلفة من مدخل بقنطرة مرتفعة ترتكز على عمودين من الحجر، تليها باحة مكشوفة فيها قبر متواضع خالٍ من الصنعة والزخرفة ضمّ شاعرنا.
إلى الشمال منه مدخلان يؤديان إلى قاعة المكتبة العلائية، وفيها خزائن خشبية امتلأت يوماً بكتب في شتى المجالات الأدبية والتاريخية والعلمية بالإضافة إلى آثار أبي العلاء وكتبه، وإلى الجنوب حديقة فيها قبران قيل إنهما لطلاب علمه. وباقتراح من الدكتور طه حسين تم تحويل البناء إلى مركزٍ ثقافي عام 1960، أما التمثال فكان قد أخذ مكانه في العام 1958.
تمَّ نقلُ كتب دار الثقافة إلى المركز الجديد عام 2008، ويقول عن ذلك أبو صالح: «سيارات تابعة للحكومة ملأت جميع ما في الدار من كتب قيمة وآثار وخزائن خشبية، ونقلتها إلى المركز الثقافي الجديد، وقاموا أيضاً بنقل الموظفين من هنا، واقفلوا دار أبي العلاء بقفلين من الحديد. بعد أيام وضعت البلدية حاويات القمامة على جدار المنزل، وبات مكباً للنفايات. وقتها غضب أبناء المدينة من تلك الإهانة، وقاموا بنقل الحاويات والقمامة إلى مكان بعيد عن الضريح. ولا أعرف إن كان فعل البلدية مقصوداً، لكننا شعرنا وقتها بالإهانة. لم يمض وقت طويل حتى استندت عربات الخضار على جدران الثقافة، وقضّت بأصواتها مضجع الشاعر الهادئ. كنتُ أراقب أقفال الباب الجديدة وأشعر بالأسى لما حلّ بالضريح. كنتُ أذهبُ إليه قبل أن تغلق أبوابه، راحةٌ كانت تسري في جسدي كلما نظرت إلى المكان وشممت رائحته».
المعرة 2011
المعرة كانت صاحبة واحدة من أولى مظاهرات محافظة إدلب عند بداية الثورة السورية، في 25/3/2011 عندما خرجت المظاهرة إلى الطريق الدولي، وهي قدمت أول الشهداء في المحافظة، الشهيد غسان البش في 29/4/2011، وسُجِّلَت فيها أول مشاركة للمروحيات العسكرية في تفريق المظاهرات في 10/6/2011، ليقتحمها جنود الأسد في 8/8/2011، وتتحرر بعدها على يد الجيش الحر في 10/10/2012. وبين نظام الأسد واقتحام المدينة وتحريرها، ضاعَ كثيرٌ من إرث المدينة وآثارها. بعض الناس اتهموا النظام بسرقة المتحف والضريح ودار الثقافة، وآخرون وجهوا أصابع الاتهام للفصائل الثورية، إلّا أن المُجمَع عليه هو أن قطع رأس أبي العلاء التمثال في 12/2/2013 كان على يد مقاتلين من جبهة النصرة، هذا ما أكده كثيرٌ من الذين التقيناهم في المدينة. فرأس التمثال قد حُزَّ بآلة قص البلاط «الصاروخ»، وليس بفعل قذيفة أو برميل متفجر. كان المستهدف هذه المرة الرجل بحد ذاته، وإلا لماذا أُبقي على الجسد؟ هي حالة اغتيالٍ معنويٍ تشبه تلك التي أسقطت تمثال إبراهيم هنانو في ساحة السبع بحرات وسط مدينة إدلب 2015، وتلك التي فجرت تمثالي بوذا على منحدرات وادي باميان عام 2001، على يد الجماعة نفسها.
ومن الطريف ما تناقله الأهالي حول أن الجماعة ظنت أن تمثال أبي العلاء هو لحافظ الأسد، يضحك أحد الخائفين من ذكر اسمهم ويقول تعليقاً على هذا الأمر: “أبو العلاء لم يكن حاكماً ولا سياسياً ليُسقَط رأسه، هي محاربةٌ للفكر، وانتقامٌ من أصحاب التشدد الديني، وإلا كيف يفرح بعد ألف عام من ينتصر على تمثال؟! هي أيضاً حالة رعب لأهالي المدينة، ورسالة واضحة من حكامها الجدد”.
استُهدِفَ ضريح أبي العلاء ثلاث مرات من قبل طائرات الأسد، إلا أن الأضرار كانت طفيفة، وما زالت على جدرانه بعض الحفر من أثر الشظايا
“ربما كانت كرامة حاميه، صاحب الضريح، هي السبب» يضحك أبو صالح بصوت مرتجف ويتابع: “فالمتحف الفسيفسائي القريب قد تهدم بالكامل، جراء استهدافه ببرميلين متفجرين”.
وهذا المتحف يعدّ من أهم المتاحف الفسيفسائية في البلاد العربية، ويحتوي على 2000 متر مربع من الفسيفساء، أهمها لوحة «فريكة» نسبةً إلى القرية التي وجدت فيها، وتحكي قصة بناء مدينة روما، بالإضافة إلى لوحة «هرقل-هراكلس» بمساحة 27 متر مربع، ولوحات أخرى، لكن كل هذا تحول إلى رماد في 21/6/2015
يقول أبو صالح: “جنود الأسد لا يحبون الكتب، فهم لم يسرقوا فيما حملوه يوم خرجوا من المدينة الكتب الموجودة في المركز الثقافي، بل سرقوا بعض المخطوطات القديمة والآثار يوم حولوا المركز الثقافي إلى ثكنة عسكرية في عام 2012. وحتى مقاتلو الفصائل فإن كثيرين منهم لا يهتمون بالكتب والقراءة أيضاً، فمع خلو المدينة من سكانها إثر القصف الشديد وبقاء بعض الثوار وعائلاتهم هناك، نقبّت كتيبةالوضّاح من خان شيخون عن الآثار في المدينة وسرقتها، ولكنهم لم يقتربوا من الكتب التي حملها بعض الثوار من أهالي بيت الخشّان إلى أحد المستودعات لحمايتها من القصف، واتخذوا من ضريح أبي العلاء مقراً لهم حتى تحرير وادي الضيف 15/12/2014 وعودة الأهالي إلى المدينة”.
بعودة الأهالي عاد الضوء إلى دار الثقافة القديم، وحمّلت شاحنتان الكتب الموجودة في المستودع لتعود إلى مكانها القديم، وافتتح المركز أبوابه منذ أواسط العام 2014 بجهود شخصية من قبل الأهالي، وبدعم من المجلس المحلي في المدينة. يقول الأستاذ عمر خشّان مدير المركز الثقافي في معرة النعمان: «في عام 2014 افتتحنا المركز الثقافي من جديد لإقامة نشاطات فكرية وتعليمية، وتطور عملنا وتوسعت نشاطاتنا ولذلك قمنا باستعادة الكتب التي كانت موجودة في أحد المستودعات للحفاظ عليها، وقامت المجموعة العسكرية المتواجدة في المكان بتسليمنا المركز، الذي أعدنا تهيئته وتجهيز مكتبته بالرفوف، وأحضرنا ما يقارب 14000 كتاب، أغلبها من النوع الأدبي والتاريخي والإسلامي ودواوين الشعر العربي». ويعمل المركز على «إعارة الكتب للدارسين وأصحاب الكفاءات العلمية، ويفتح أبوابه للزائرين والقراء وأصحاب النشاطات والأمسيات الأدبية والمعارض والدورات التدريبية، فللمكان هيبته وحضوره، وصاحبه الذي نذر حياته للفكر والأدب».
معرة النعمان أبرز معاقل الفرقة 13 في الجيش الحر، التي تشكلت عام 2013 بقوام 1800 مقاتل، وعلى أطرافها هيئة تحرير الشام التي انضوت فيها جبهة النصرة، التي سبق أن اقتحمت المدينة وهاجمت مقار الفرقة 13 فيها وفي محيطها ربيع 2016، وهو ما تلاه موجة مظاهرات متتالية في المدينة ضد جبهة النصرة. اقتحمت هيئة تحرير الشام المدينة مجدداً منذ ثلاثة أشهر في خلاف متجدد مع الفرقة 13، لم يجرؤ أحد من السكان الحديث عن أسباب تجدده، وكل ما قيل لنا أن خمسة من عناصر الفرقة قتلوا، وثلاثة مدنيين وعنصرٌ من حركة أحرار الشام، بالإضافة إلى العقيد تيسير السماحي رئيس مخفر الشرطة ورئيس اللجنة الأمنية في المعرة، ليخرج الأهالي في مظاهرة ضد وجود الهيئة في 9/6/2017، بعدها انسحبت الهيئة من شوارع المدينة وطوقتها بالحواجز من جميع جهاتها.
وللحرب أثرها على عمل المركز، فلم تعد الثقافة أولوية عند أبناء المدينة والنازحين الجدد، في ظل الظروف الاقتصادية القاسية التي يعيشونها، ويقول خشّان: «لم يدخل إلينا سوى رجل واحد من ريف حلب لاستعارة كتاب قدمناه له ثم أعاده»، أما أهل المدينة وخاصة رابطة الشباب المثقفين فـ«يقومون بنشاطات أسبوعية داخل المركز»، بالإضافة إلى «دورات في مهارات الكتابة الإبداعية للنساء وتعليم طرائق التدريس والتوعية ورعاية الطفل»، وليس هناك صلة رسمية بين المركز والمجلس المحلي، إلا أن الأخير قدم كل ما يستطيع من الدعم لانطلاق المركز واستمراريته.
يقول أبو صالح في نهاية حديثه عن ذاكرته مع المكان: “حين تفقد الشيء فإنك تشعر بقيمته، يستحق المركز الاهتمام اللازم الذي يليق بمكانة صاحبه كشاعرٍ وفيلسوفٍ وابنٍ لمدينتنا، وينبغي أيضاً إعادة التمثال إلى مكانه، فالمعرة مرتبطة به، وكل العالم يعرفنا من خلاله. للمعرة أبواب سبعة، من يعرفها؟ من يستطيع ذكر ثلاثة منها؟؟ ولكن اسأل أي طفل في المدينة سيقودك إلى أبي العلاء”.
ضمَّ أصابعه المتعبة وتوجه ببصره نحو الضريح: “ليس البشر وحدهم من لا يعوضون، ولكن آثارهم أيضاً لا يمكن تعويضها”.
عن موقع الجمهورية