من قطع رأس المعري

علي حسين

كاتب وناقد

درس الرصافي أشعار أبي العلاء المعري وحفظها واطّلع على معظم ما كتب عنها، وكل ذلك في إعجاب شديد وحب صادق، وكان الرصافي يعرف أن المعري ينفر من المديح، فلم يكتب قصيدة في مديحه، لكنه اتخذ من منهجه في التأليف طريقة ليضع كتبه التي أطلق عليها أسماء “الرسالة العراقية” الرسائل والتعليقات “حتى أن كتابه “الشخصية المحمدية” ذيّله بعنوان فرعي “رسالة في حل اللغز المقدس”، تيمناً برسالة المعري “الغفران”.

كان أبو العلاء ملهم الرصافي في فلسفة الوجود والحياة، حيث سلك مسلكه في انتقاد الساسة والأديان والمذاهب، وقال الرصافي في الأديان ماهو أكثر جرأة من شاعره المفضل، وعندما أصدر طه حسين كتابه “مع أبي العلاء في سجنه” كتب الرصافي “على باب سجن أبي العلاء” وفيه يرد على طه حسين الذي كان يرى في إعاقة المعري سبباً لكثرة شكه ونقده للمجتمع، ويرى الرصافي المعري واعياً متماسكاً مدركاً لنفسه ولتجربته، ولم يكن وليد الإعاقة، ويذهب إعجاب الرصافي بالمعري أن يسميه “شاعر البشر”:

طاوَلَ الأرْضَ والسما      شارَفَ الشمسَ والقمر
لا تقل شـاعر العـرب      إنه شــــــاعرُ البشــــر

فالشاعر الضرير يطاول عنان السماء ويشارف بكلتا يديه الشمس والقمر، فيخترق الواقع والخيال، المعري عند الرصافي هو الأستاذ الذي لا أحد قبله ولا أحد بعده، هو صاحب الشعر الحق وهو كعهده أبداً “قادم ذاهب، حاضر غائب، مقيم مفارق”.

الإعجاب بالمعري دفع علامة العراق طه الراوي لأن يفرد له كتاباً أسماه “أبو العلاء المعري في بغداد” قال فيه: “ثلاث علامات من اجتمعن له كان من عظماء الرجال، وكان له الحق في الخلود؛ فرط الإعجاب من محبيه ومريديه، وفرط الحقد من حاسديه، وجو من الأسرار يحيط به كأنه من الخوارق، وهذه العلامات الثلاث مجتمعات بأبي العلاء على نحو نادر” وهذا الوصف ليس ببعيد عن قصيدة الجواهري “قف بالمعرة”.

يقول الجواهري في (ذكرياتي): “كانت القصيدة قد تبوأت تاج قصائدي وملكت شغاف قلبي وضفاف مشاعري، وأصبحت المولود الذي انتظرته بفارغ الشوق والصبر واللهفة، ومن حسن حظي أن استطعت أن أنهي القصيدة قبل الإفتتاح بيوم واحد – مهرجان المعري بدمشق عام 1944-  ولم يكن لديّ متسع لكي أغامر بما يزيد عليها أو ينقص منها، كما هو شأني في كثير من قصائد غيرها”.

ويضيف: “كان عبثاً أن تنجح محاولاتي في الساعة نفسها واليوم نفسه الذي تلقيت فيه هذا النبأ المفاجئ، نبأ المشاركة في ذكرى المعري فسهرت ليلتي الأولى حتى الصباح وألحقتها بأخرى وفي الليلة الثالثة كانت حصيلتي من هذه النهارات والليالي الثلاث, قصيدة لا تقل عن السبعين بيتاً. يخبرنا بأنه صرخ: وجدتها!! عندما كتب مطلع القصيدة:

قِفْ بِالْمَعَرَّةِ وَامْسَحْ خَدَّهَا التَّرِبَا        وَاسْتَوْحِ مَنْ طَوَّقَ الدُّنْيَا بِمَا وَهَبَا

كدت أوقظ النيام وأنا أعيده بما يشبه الصراخ، هذا هو أبو العلاء المعري وجدته، غير أن ما وجده الجواهري ليس أبا العلاء المعري وإنما الجواهري نفسه، الجواهري الذي كان يتلمس أفكار المعري ليجد من خلالها ذاته القلقة الصاخبة التي هي شبيهة بذات المعري الضاجة، المنفرة، الباحثة في كل شيء، وعن أي شيء:

نَعَوا عَلَيْكَ  وَأَنْتَ النُّورُ، فَلْسَفَةً          سَوْدَاءَ لا لَذَّةً تَبْغِي وَلا طَرَبَـا
وَحَمَّلُـــوكَ  وَأَنْــتَ النَّــارُ لاهبــــة        وِزْرَ الذِي لا يُحِسُّ الحُبَّ مُلْتَهِبَا

ويضيف الجواهري في ذكرياتي: “بينما كنت ألقي القصيدة كانت يدي اليمنى تمتد، عفو الخاطر، إلى الكتف اليسرى للدكتور طه حسين، الذي كان بجانبي، وهذا الرَّجل ليس أبا العلاء، لكنه كان الوحيد ممَن يجمع ما بين فكره وملامحه شيئًا غير قليل مِن خصائصه.

المعري الذي عاش مسالماً رافضاً الجور والظلم لم يجد من أحزاب الإسلام السياسي اليوم سوى لغة “الفأس” التي انهالت على حكيم المعرة لتعلن عصر غياب الحكمة.. مثلما  انهالت فأس أخرى في مصر لتقطع رأس طه حسين معلنة بوضوح انسحاب مصر من عمادتها للثقافة والفنون والفكر.. ليست القضية في قطع رؤوس رموز النهضة العربية.. لكنها في  الجماعات الظلامية التي لا تريد للناس أن تعيش في النور.. وليس بعيداً  عن رأس المعري المقطوع، قتل المعارض التونسي شكري بالعيد، وفتوى اباحة دم المعارضين التي أصدرها رجل دين في مصر، واعتقال السيد أحمد القبنجي في ايران التي وجدت في رأسه خطراً يجب استئصاله.

لا مكان للاختلاف مع الآخر.. فالفأس دائما حاضرة.
من ملحق جريدة المدى