ابن القارح في ضيافة المعري

باور أحمد

كاتب وباحث كُردي عراقي

في يوم من أيام الربع الأول من القرن الخامس الهجري سأل أحد الطلاب «أبا العلاء» عن ابن القارح 351-422هـ/962-1031م، فكان رد أبا العلاء بالقول “أعرفه خبراً [سمعت عنه ولا أعرفه شخصياً] هو الذي هجا أبا القاسم بن علي بن الحسين المغربي”.
لقد كُتبت الرسالة القارحية إلى المعري اعتراضاً على هذه الجملة، ومن ثم فإن رسالة الغفران كتبت رداً على هذه الرسالة. ومنذ ذلك الحين اشتهر ابن القارح في المشهد الأدبي القديم والحديث، لأنه كان الحافز لكتابة رسالة الغفران، وسواء أكان ابن القارح مُرسلاً أم مُستقبلاً فإن حضوره بالغ الأهمية لعدة اعتبارات:

  1. من حيث الفعل كان ابن القارح هو البادئ بالكتابة إلى أبي العلاء، وهذا يعني أنه لولا الرسالة القارحية لما كتبت رسالة الغفران.
  2. من حيث حضوره في ذهن أبي العلاء في زمن كتابة رسالة الغفران.
  3. من حيث حضوره في ذهن القارئ في زمن قراءة رسالة الغفران في فترة لاحقة.

إن غياب النقطة (1) يعني غياب الحافز، وغياب النقطة (2) يعني غياب المستقبل المباشر، وغياب النقطة (3) يعني غياب المرجع، وفي حالة غياب أحد هذه العناصر تستحيل الكتابة أو القراءة. إن هذا الحضور يجعل ابن القارح يؤدي دور البطولة في رسالة الغفران.

القسم الأول من رسالة الغفران جاء على شكل قصة متخيلة لرحلة أخروية على غرار كتاب “مسامرات الأموات واستفتاء ميت” للـسميساطي، ظهر ابن القارح في صورة تقترب إلى حد كبير من صورة البطل المركزي الذي تتمحور حوله الشخصيات والأحداث، فقد تخيل فيها أبو العلاء أن ابن القارح بأرض المحشر في يوم القيامة، ثم غفر له فأدخل الجنة حيث كان يطوف فيها وينعم بطيباتها، ويجتمع بطائفة من الشعراء الجاهلية والإسلام، ويسألهم كيف نالوا الغفران ويعقد معهم المجالس الأدبية ثم ينتقل إلى جنة العفاريت فإلى الجحيم، ومن الجحيم يعود على الجنة. أما في القسم الثاني الجوابي فقد كان حضور ابن القارح حضوراً فاعلاً، لأنه هو الذي يحدد المواضيع محل النقاش حيث كان أبو العلاء يرد في هذا القسم على رسالة ابن القارح فقرة فقرة.

عندما كتب ابن القارح رسالته لم تكن بينه وبين أبي العلاء علاقة شخصية أو معرفة مباشرة، والحدث الذي أثار فيه انفعالاً دفعه إلى كتابة الرسالة القارحية هو هذه الجملة التي ذكرتها سابقاً التي قالها أبي العلاء، متحدثاً عن ابن القارح «هو الذي هجا أبا القاسم»، حيث أدرك ابن القارح دلالة هذه الجملة بكل أبعادها، لذلك نجده يرد على أبي العلاء “فذلك منه -أدام الله عزه- رائع لي. خوفاً أن يستشر طبعي، وأن يتصورني بصورة من يضع الكفر موضع الشكر”.

حين نتأمل رسالة الغفران ندرك أن المعّري في كهفه المظلم بالمعّرة كان يلعب وهو يعبث بالأديب علي بن منصور، ثم وهو يرسم صورة الجنة ويسبغ عليها قوس قزح من الألوان، وكذلك وهو يرسم مشاهد الجحيم. كان من الممكن أن يرد أبو العلاء على رسالة ابن القارح برسالة رزينة للشكر على التبرئة، ولكنه كان يريد أن يلعب ويرسم بفرشاته وهو ضرير أروع شطحات الخيال الإنساني.

 إن الغفران الذي يضاف إلى الرسالة لا يعود على رسالة أبي العلاء كما قد يتبادر إلى الذهن، وإنما يحيل على الرسالة القارحية. إن الغفران تحقق لابن القارح في رسالة أبي العلاء بسبب بركة الرسالة التي أرسلها ابن القارح، لأنها أولًا كانت «تأمر بتقبل الشرع، وتعيب من ترك أصلًا إلى فرع»، ولأنها ثانيًا أظهرت غيرة ابن القارح على الدين وغيظه على الزنادقة والملحدين، ولأنها أخيراً تضمنت ثناء بليغاً على الله عز وجل، لهذه الأسباب مجتمعة «غرس لمولاي الشيخ –إن شاء الله- بذلك الثناء، شجرة في الجنة لذيذ اجتناء، كلٌ شجرة منه تأخذ ما بين المشرق إلى المغرب بظل غاط».

 

عن ساسة بوست