ملاحظـــات على الفـن القصصـي في رســالة الغفـــران
أحمد درويش
كاتب وناقد مصري
مقدمة
يمثل نص “رسالة الغفران” لأبي العلاء المعري (363-449هـ 974-1057م) واحداً من النصوص الرئيسية في تاريخ النثر العربي خاصة والأدب العربي عامة، ومن أكثر نصوص هذا الأدب تأثيراً على مسيرة الأجناس والنصوص الأدبية اللاحقة سواء على المستوى المحلي أو على المستوى العالمي.
و “رسالة الغفران” نص شديد الثراء تتنازعه مجالات عدة، مثل تاريخ الأفكار، وعلوم اللغة، والمذاهب الفلسفية، والمعتقدات الدينية، وتاريخ الشعر وغيرها من المجالات المتشابكة التي حظيت بعض اهتمامات الدارسين من قبل، من خلال الحوار مع تجلياتها في رسالة الغفران، لكنه أيضاً نص ينتمي الى تاريخ الفن القصصي الخلاق، الذي أسهم أبو العلاء بنصيب وافر في تطويره من خلال نص الغفران.
وهو نص وهب الإمتاع القصصي دون شك للمنتمين إلى عصره وثقافته، وهو قابل لأن يهب مزيدا من الامتاع للمنتمين الى عصور أخرى ودرجات من الثقافة مختلفة من خلال الحوار الفني معه.
فضاء الرسالة
والمجال الذي اختارته “رسالة الغفران” مجال مبتكر يتعلق بعالم الغيب ومحاولة ارتياده وإطلاق الحرية للخيال وللغة وللعلاقات بين الأزمنة والأمكنة وتذويب الفواصل بين الجمادات والكائنات الحية العجماء أو الناطقة، وخلق متعة فنية، من خلال هذا كله – للنثر المجنح في رحاب عالم اللغة، متكئاً أحياناً على اختبار خيال الشعراء ليثبت قصوره في المواقف التي تفوق الخيال، وعلى ذاكر تهم ليثبت أنها قد تتلاشى أمام عصف الأهوال.
أسلوب القصة
واللافت للنظر في البدء أن اختيار “الثوب القصصي” لم يكن حتماً على كاتب نص “الغفران” فالنص يندرج في إطار أدب “الجواب” لأنه جواب على رسالة ابن القارح، وأدب الجواب يحكم غالباً بمبدأ المشاكلة، فعندما يكون السؤال قصيدة أو أرجوزة أو مقامة أو رسالة أو لغزاً، يكون التحدي المطروح على المسؤول أن يجيب سائله من جنس بيانه، ولم تكن رسالة ابن القارح لأبي العلاء قصة حتى يكون الثوب القصّي حتماً في الرد عليها، وإنما كانت خواطر شيخ حلبي قادته أعوامه الثمانون إلى التأمل فيمن أغرتهم متع الحياة وغفلوا عن التوبة في حينها، وقد عدد كثيرين منهم في تاريخ الفكر والشعر، وراعه السؤال المخيف: “كيف يصنع من عنده أن التوبة لا تصح من ذنب مع الإقامة على آخر؟ فلا حول ولا قوة”[mfn]رسالة ابن القارح تحقيق د. عائشة عبد الرحمن ص 55 من طبعة رسالة الغفران دار المعارف – الطبعة الثامنة[/mfn].
هل فتح هذا السؤال أمام أبي العلاء باب التحول من الحال الى المال من الندم الى الغفران، فكانت هذه القفزة القصصية الرائعة؟
الحبكة
إن حركة القاص في مثل هذه الحالة لتبدو أكثر صعوبة من حركة القاص الذي يختار نقطة البدء بنفسه دون أن يكون قصه جواباً، ودون أن يكون خياله صدى لواقع يحاوره، وإذا كانت هذه الصعوبة تجابه نقطة البدء في النص القصصي للغفران، فإن صعوبة أخرى أكثر حساسية كانت تجابه نقطة الانطلاق والحركة، ذلك أن العالم الذي تم اختياره لتنمو فيه “الحكاية” كان عالم الدار الآخرة، وهو عالم لم تكن الصورة عنه محايدة في درجة الصفر يستطيع خيال القاص أن يشكلها كما يشاء، ولكنها كانت مملوءة بالتصور الديني في النصوص المقدسة وامتداداته في تأويلات الوعاظ والحكائيين مما يتطلب من القاص مهارة خاصة ينبغي أن تتبدى في طرافة الحركة الخيالية وجدّتها من ناحية، وعدم اصطدامها بالثوابت من ناحية ثانية.
تكنيك الرسالة
ولقد تبدت براعة أبي العلاء المعري في تناول الخيطين معاً بين أصابعه منذ العبارات الأولى التي بدأ بها رده على رسالة ابن القارح لكي ينمو بالرد إلى قصة الغفران، كان مفتاح الرد عنده هو عبارة : “الكلمة”. وهو مصطلح يمتد عند أبي العلاء فيشمل “الرسالة” كما يشمل القصيدة[mfn]يستخدم ابو العلاء في التعبير عن القصيدة عدة مصطلحات في رسالة الغفران، ومن بينها مصطلح الكلمات – في مثل قوله في الحوار مع أمرىء القيس: “اخبرني عن كلمتك الصادية والضادية والنونية ” ثم يذكر مطالع نصوص تنتهي بهذه القوافي : انظر ص 315 رسالة الغفران[/mfn] والكلمة هنا وقد أطلقت على رسالة ابن القارح تتحرك تحركاً استعارياً على مستويين، أولهما المستوى الرأسي ومن خلاله يكون الكلم الصالح قابلاً للصعود الى الملأ الأعلى: “ولعله، سبحانه، قد نصب لسطورها المنجية من اللهب، معاريج من الفضة أو الذهب تعرج بها الملائكة من الأرض الراكدة إلى السماء، وتكتشف سجوف الظلماء بدليل الآية “إليه يصعد الكم الطيب والعمل الصالح يرفعه”، ومن خلال هذا التصعيد الرأسي، تصبح كلمات الرسالة قابلة لأن تصعد الى الملأ الأعلى وأن تحمل صاحبها معها.
أما المستوى الثاني للنمو، الذي يمهد للدخول الى العالم القصص، فهو مستوى “الترشيح” وهو تقنية معهودة لدى البلاغيين العرب يتم من خلالها النمو بالمشبه به أو المستعار منه والا يغال من خلاله في عالم[mfn]انظر ص 140 رسالة الغفران[/mfn] الخيال وأبو العلاء يلجأ الى هذه التقنية عندما يجعل الكلمة الطيبة شجرة لها أصول ثابتة وفروع سامقة وثمار يانعة في كل حين: “وهذه الكلمة الطيبة كأنها المنية[mfn]كان الاسراف في هذه التقنية مثار جدل بين النقاد المحافظين والشعراء المجددين كما حدث في قضية الجدل حول شعر أبي تمام .[/mfn] بقوله: ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة، أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها”[mfn]رسالة الغفران : ص 140[/mfn].
وبهذين المستويين من النمو جعل كلمات الرسالة التائبة أجنحة صعدت الى عالم الغفران وشجراً غرس في تربته وامتدت فروعه في أرجائه وأينع ثمره وآتى أكله. ولقد فتح ذلك “الترشيح” باب النمو التخييلي فأغصان الشجر وظلاله تستدعي المستظلين به: “والولدان المخلدون في ظلال تلك الشجرة قيام وقعود … يقولون : … نحن وهذه الشجر صلة من الله لعلي بن منصور، تخبأ له إلى نفخ الصور”[mfn]رسالة الغفران : ص 140[/mfn]، وأصل الشجر الثابت يستدعي ما يغذي نباته من المياه والأنهار “وتجري في أصول ذلك الشجر أنهار تختلج من ماء الحيوان، والكوثر يمدها في كل آن[mfn]رسالة الغفران : ص 140[/mfn].
والأنهار الجارية تستدعي ما يسبح فيها ومن يجلس على شواطئها ومذاقها المتميز خمراً وعسلاً ويستدعي ذلك ما قبل في الدنيا وأوانيها ومصير الشعراء الذين قالوا وسؤالهم عن المقارنة بين ما رأوا هنا وهناك، وهكذا تتسع القاعدة “الترشيحية” لتصبح أصلاً يتم التحرك خلاله والنمو به لصنع عالم حكائي مكتمل يتوالى توالد الحكايات فيه من منابع مختلفة، حقيقية أو تخييلية أو أسطورية من جهة وإنسانية وملائكية وشيطانية وحيوانية وجمادية وطبيعية من جهة أخرى، كما يتم تقديمها متداخلة أو مستقلة من خلال معارض حكائية متنوعة بدءاً من الاستعارة الموحية إلى الشريحة القصصية إلى الموقف القصصي الى القصة المكتملة.
تحرير اللغة في الرسالة
إن اللغة التي يناط بها أن تسوغ هذا العالم الحكائي الغريب لكي تفر به من خيال سامع لم يره، وتنقل إليه شيئاً “لم يخطر على قلب بشر” لغة من شأنها أن تستعين بكثير من أجنحة “الحرية” وأن تفك كثيراً من الارتباطات التي استقرت بين الدوال والمدلولات وبين المفردات بعضها والبعض الآخر وبين الخصائص التي ارتبطت بأنواع من الكائنات حتى أصبحت من لوازمها منطوقاً ومفهوماً، وذلك ما حاول أن يقدمه النص القصصي لرسالة الغفران.
لقد أشار أبو العلاء في مرحلة مبكرة من النص الى أن نمط “القول” الذي يرد في نصه، أشبه بلغة الأحلام: “وهذا فصل يتسع” وإنما عرض في قول نام، كخيال طرق في المنام[mfn]رسالة الغفران : ص 164[/mfn] وهكذا الحكم وحده يحرر اللغة، من كثير من قيود الترابط المألوفة. غير أن محدودية اللغة البشرية في نهاية المطاف ومحدودية المعنى المتصور في ذهن السامع من خلال خبرته البشرية، تضع أمام القاص، المجنح عقبة أخرى، فهو إذا أراد مثلاً أن يصف “العسل” في عالم ما وراء الغيب فيما تشير اليه الآية الكريمة “وأنهار من عسل مصفى” وجد أنه في خلد السامع يشير إلى شيء حلو المذاق وأن الشعراء يستلهمون المعنى في المواقف المعنوية العذبة في مثل قول الحارث بن كلدة:
[poem w=”55%”]فما عسل ببارد ماء مزن | ** | على ظمــأ لشاربه يشـاب |
أشهى من لقيـكم إلينا | ** | فكيف لنا به ومتى الإيـــاب |
ولكنه يحس بأن عسل الجنة تفوق لذته آلاف المرات ما تحتمله كلمة “العسل”، البشرية، فيريد أن يلجأ إلى “تحرير” الكلمة من محدودية الدلالة وأن يفك عقالها، فيلجأ الى كتامة نوع من “التضاد” بين المدلول الراسخ والمدلول الجديد في المناخ الجديد، فيكون موقع “العسل” السائد من مدلوله المستحدث كموقع الزفت والقطران من الفالوذج، يقول: “ولو أن الحارث بن كلدة طعم من ذلك الطريم (العسل) لعلم أن الذي وصفه يجري من هذا المنعوت مجرى الآفل “الزفت” الشاقة من الرعديد (الفالوذج الرجراج)[mfn]رسالة الغفران : ص 166[/mfn].
وكذلك الشأن مع كلمة “السلوى” التي يستخدمها الشعراء فإذا ما قورنت بالسلوى في عالم الغيب كانت أشبه بشجر القار المر النابت في الرمال[mfn]رسالة الغفران : ص 167[/mfn]. والقاص الذي يتكرر منه هذا الصنيع في مواقف مختلفة يسعى الى أن يحرر اللغة _ وهي أداته الرئيسية في بناء عالمه الجديد – من القيود التي تحد من مدلولاتها في الذهن – وأن يسد الفجوة بين الطاقة المتنافية للمفردات اللغوية في الاستعمال البشري والطاقة غير المتنافية للخيال الأخروي.
حرية الخيال
إن “الحرية ” مفتاح رئيسي لفهم بعض أسرار الروعة والإبهار في عالم أبي العلاء القصصي، وهي حرية تعود معها الكائنات في خيال القصاص الى عجينتها الأولى فتكون قابلة لاعادة التشكيل واستكمال النواقص واقصاء المألوف، وتلك واحدة من مفاتيح الفن العظيم في كل زمان ومكان، فهذه رحلة القنص التي يقوم بها ابن القارح ومعه عدي بن زيد في الجنة وهما يطاردان قطيعاً من البقر والحمر الوحشية على سابحين من خيل الجنة فإذا ما اقتربت أطراف السنان من ذيل بقرة، تكلمت[mfn]رسالة الغفران : ص 194[/mfn]:
“أمسك رحمك الله، فإني لست من وحش الجنة التي أنشأها الله ولم تكن في الدار الزائلة ولكنني لحت في محلة الغرور (الدنيا) أروا في بعض القفار، فمر بي ركب مؤمنون قد كرى زادهم فمرعوني واستعانوا بي على السفر فعوضني الله بأن أسكنني في الخلود”.
وعلى النحو نفسه يتحدث حمار الوحش عندما يوشك أن يصاد ليخبر أنه دخل الجنة لأن جلده صنعت منه القراب فشرب منها الصالحون وتطهروا[mfn]رسالة الغفران : ص 194[/mfn]. وما دامت البقرة والحمار قد كسرا قيد الصمت ودخلا عالم الكلام فإن “من شأن طير الجنة، أن يتكلم كما يقول أبو العلاء في صورته القصصية الجميلة التي يقدمها لركب الأوز الذي مر على روضة في الجنة فيها ابن القارح وجماعة معه فيقلن:
“ألهمنا أن نسقط في هذه الروضة فنغني لمن فيها … فينتفضن فيصرن جواري كواعب يرفلن في وشي الجنة، وبأيديهن المزدهر وأنواع ما يلتمس به الملاهي فيعجب وحق له العجب، وليس ذلك ببديع من قدرة الله جلت عظمته”. ولسوف تتألق فرقة الراقصات من الأوز، العازفات البارعات ويصمدن أمام كل اختبار في الموسيقى يطرح عليهن، ويعزفن بكل لحن معهود أو غير معهود، ويبدين من ألوان الجمال والدلال، ما يجعل ابن القارح يقترح على النابغة الجعدي وكان في حالة غضب إثر نقاش حاد جرى بينه وبين الأعشى _ أن يتمتع بإحدى هؤلاء الحوريات قائلاً:
“يا أبا ليلى إن آت جلت قدرته من علينا بهؤلاء الحور العين اللواتي حولهن عن خلق الإوز، فاختر لك واحدة منهن فلتذهب معك إلى منزلك، تلاحنك أرق اللحان وتسمعك ضروب الألحان، فيقول لبيد بن ربيعة: إن أخذ أبو ليل قينة وأخذ غيره صكها، أليس ينتشر خبرها في الجنة فلا يؤمن أن يسمى فاعلو ذلك أزواج الأرز؟ فتضرب الجماعة عن اقتسام أو – القيان “.
حرية التشكيل الحكائي
إن قدر الحرية المتاحة أمام التشكيل الحكائي يتسع فلا يصبح وقفا على كسر حاجز الصمت، وتفجر اللفة على لسان العجماوات، ولكنه يتعداه الى كسر حاجز “الصورة الثابتة ” والانتقال الى طواعية التشكيل وهي حرية تفجر ما لا نهاية له من الصور المحتملة، وتتحول معها أحلام الاستعارات في اللغة الى مواقف قصصية رائعة، ألم تربط اللغة في استعاراتها طويلا بين الأنثى والفاكهة فكان التفاح في الخدود والرمان في الصدور والورد في الشفاه والعنم في أطراف الأصابع وغير ذلك مما أبدعته استعارات اللغة ؟ إن حرية التشكيل تتجاوز ذلك الموقف الاستعاري لتجعل القاص يحدثنا عن “الفاكهة الأنثى” وعن شجر في الجنة يعرف بشجر الحور: “يجيء الى حدائق لا يعرف كنهها إلا الله فيقول له الملك: خذ ثمرة من هذا الثمر فاكسرها فإن هذا الشجر يعرف بشجر الحور، فيأخذ سفرجلة أو رمانة أو تفاحة أو ما شاء اشر من الثمار فيكسرها فتخرج منها جارية حوراء عيناها تبرق لحسنها حوريات الجنان، فتقول: من أنت يا عبدالله فيقول: أنا فلان ابن فلان، فتقول: إني أمني النفس بلقائك قبل أن يخلق الله الدنيا بأربعة الآن سنة”[mfn]رسالة الغفران : ص 288[/mfn].
ولا تقف حرية التشكيل التي يطلقها القاص من عقالها، عند حد رؤية الأشياء على غير ما ألفت عليه في الواقع الجامد، حيوانات تتكلم، وإوز تغني وتعزف وترقص، وحوريات يخرجن من ثمار السفرجل والرمان والتفاح، وانما تتعدى ذلك الى نقل جانب من هذه الطاقة التي هي للخالق وحدث الى المخلوق الصالح، فيكون في طوق هذا المخلوق في الجنة أن يشكل المخلوقات التي يحبها على ما يهوى، هذا هو ابن القارح وقد منح واحدة من حوريات “الفاكهة الأنثى” يخطر في باله وهو ساجد أنها ربما تكون _ على حسنها _ ضاوية الأرداف، فإذا به وقد قام من سجوده يجدها ذات أرداف لا نهاية لها فيتمنى أن تصفر عن ذلك “فيقال له: أنت مخير في تكوين هذه الجارية كما تشاء فيقتصر من ذلك على الإرادة[mfn]رسالة الغفران : ص 289[/mfn].
وتشيع هذه الظاهرة التي تلفي الفواصل بين تمني الأشياء في النفس وتحققها في الخارج، فإذا تمنى ابن القارح وعدي بن زيد والنابغة الذبياني والنابغة الجعدي أن يكون معهم الأعشى وقالوا : “فكيف لنا بأبي بصير؟ فلا تتم الكلمة إلا وأبو بصير قد خمسهم فيسبحون الله ويقدسونه ويحمدونه على أن جمع بينهم، وهو على جمعهم إذا يشاء قدير”[mfn]رسالة الغفران : ص 204[/mfn]، وإذا تمنى النابغة أن يحضر رواة الشعر مجلسه ليؤيدوا رأيه فلا يكاد ينطق بالقول “إلا والرواة أجمعون قد أحضرهم الله القادر”[mfn]رسالة الغفران : ص 206[/mfn] وإذا اشتاق ابن القارح إلى سماع غناء القيان في فسطاط مصر وفي بغداد لإحدى القصائد، سارعت جماعات من الطير اللاقطة لكي يتحولن إلى “خلق حور غير متساقطة تلحن قوله “المخبل السعدي”:
ذَكَرَ الرَبابَ وَذِكرُها سُقمُ فَصَبا وَليسَ لِمَن صَبا حِلمُ
وَإِذا أَلَـــمَّ خَيالُــها طُرِفَت عَيني فَماءُ شؤونِها سَجمُ
فلا يمر حرف و حركة إلا ويوقع مسرة لو عدلت بمسرات أهل العاجلة منذ خلق الله آدم الى أن طوى ذريته من الأرض لكانت الزائدة على ذلك، زيادة اللج المتموج على دمعة الطفل”[mfn]رسالة الغفران : ص 224[/mfn].
حرية وإعادة التشكيل الحكائي
وتقنية “حرية التشكيل ” التي تفتح كثيراً من الأبواب المؤدية إلى عالم البناء القصص المتميز في رسالة الغفران، تتجسد أحياناً في صورة “إعادة التشكيل” وهي صورة تبرز كثيراً من الأبعاد الانسانية لهذا العمل الأدبي الكبير، وتقوم فكرة إعادة التشكيل على مبدأ “تعويض النواقص” وإحداث التوازن لمن حرموا قدراً من أوجه الجمال أو الكمال في الدنيا العاجلة، فتتحول صورهم من خلال إعادة التشكيل إلى صور تبلغ درجة الكمال في النقيض المفقود، وأبو العلاء الذي حرم نعمة البصر وحرم ألوان “الحرية” المترتبة عليها في الدنيا واختار أن يكون رهين المحبسين، وهو الذي يرسم بقلما صور الجمال ويعوض النواقص للمحرومين، فها هو الأعشى “وقد صار عشاه حوراً معروفاً، وانحناء ظهره قواماً موصوفاً”[mfn]رسالة الغفران : ص 178[/mfn] وهاهو زهير بن أبي سلمى الذي كان رمزاً لحمل ثقل الشيخوخة وأعبائها والسأم من الحياة، يرتد في الجنة ” شاباً كالزهرة الجنية … كأنه ما لبس جلباب هرم ولا تأفف من البرم، وكأنه لم يقل: سئمت حولاً – لا – أبالك- يسأم[mfn]رسالة الغفران : ص 182[/mfn]
ومثله لبيد بن ربيعة الذي يتردد بيته المشهور في السأم: (ولقد سئمت من الحياة وطولها) وسؤال هذا الناس كيف لبيد؟ هاهو يمر في الجنة وهو “شاب في يده محجن ياقوت”[mfn]رسالة الغفران : ص 215[/mfn].
أما الشعراء الخمسة العور من بني قيس: تميم بن مقبل وعمرو بن أحمر والشماخ بن ضرار وعبيد بن الحصين، وحميد بن ثور، فعندما يردهم ابن القارح في الجنة يقول:
“ما رأيت أحسن من عيونكم في أهل الجنان، فمن أنتم خلد علكم النعيم؟ فيقولون: نحن محوران قيس”[mfn]رسالة الغفران : ص 237[/mfn]. وليست إعادة التشكيل وتعويض النواقص في العالم القصص لرسالة الغفران وقفاً على مشاهير الشعراء والكتاب وحدهم بل إنها تقنية تمتد الى البسطاء من عامة الناس وتفتح أمامهم آفاق الآمال والأحلام ويرمز لهم النص القصصي بامرأتين دميمتين فقيرتين إحداهما من حلب والأخرى من بغداد، ولكنهما تتحولان الى اثنتين من الحور العين يلتقي بهما علي بن منصور فينبهر بالسحر والجمال، تقول إحداهما له:
“أتدري من أنا يا علي بن منصور؟ فيقول: أنت من حور الجنان اللواتي خلقكن الله جزاء للمتقين، وقال فيكن : “كأنهن الياقوت والمرجان” فتقول: أنا كذلك بإنعام الله العظيم، على أني كنت في الدار العاجلة أعرف بـ “حمدونة” وأسكن في باب العراق بحلب وأبي صاحب رحى وتزوجني رجل يبيع السقط، فطلقني لرائحة كرهها في فمي وكنت من أقبح نساء حلب، فلما عرفت ذلك زهدت في الدنيا الفرارة وتوافرت على العبادة وأكلت من مغزلي فصيرني ذلك إلى ما ترى.
وتقول الأخرى: أتدري من أنا يا علي بن منصور؟ أنا “توفيق السوداء التي كانت تخدم في دار العلم ببغداد … وكنت أخرج الكتب إلى النساخ فيقول: لا إله إلا الله، لقد كنت سوداء فصرت أنصع من الكافور”[mfn]رسالة الغفران : ص 286[/mfn].
إن تقنية “إعادة التشكيل” في الفن القصصي لرسالة الغفران لا تتوقف عند ظاهرة “تعويض النواقص” بل قد تتحقق من خلال الصورة المقابلة التي يتم فيها إحداث التوازن من خلال “سلب المرايا الخاصة” من الذين كانوا يمتعون بها في الدنيا، وخلعها على من كانوا قد حرموا منها والصورة القصصية التي تجسد ذلك في الغفران هي صورة “الجن” الذين كانوا قد أعطوا في الدنيا القدرة على التشكل والتحول فحرموا في الآخرة ميزة أن يظلوا شباباً كأهل الجنة من الأنس، وأصبحت تظهر عليهم علائم الشيخوخة كما حدث مع الجني الذي حاوره ابن القارح في الجنة: أديا أبا هدرش مالي أراك أشيب وأهل الجنة شباب؟ فيقول: إن الإنس أكرموا بذلك وأحرمناه لأننا أعطينا الخولة في الدار الماضية فكان أحدنا إذا شاء صار حية، وان شاء صار عصفورا وان شاء صار حمامة فمنعنا التصور في الدار الآخرة “[mfn]رسالة الغفران : ص 393[/mfn].
وتقنية “إعادة التشكيل” تبلغ مداها عندما ترى الكائنات تنتقل من “صورة” الى “أخرى” ثم تعود الى صورتها الأولى، دون أن تذوق “الألم” الذي يصاحب التحول عادة، لأن الجنة تخلو من الألم حتى الفريسة التي تصاد وتؤكل تحس بلذة الصيد كما يحس بها الصائد وتشعر بمتعة المأكول كما يشعر هو بمتعة الآكل وها هو “أسد القاصرة” يقول:”أنا أفترس ما شاء الله فلا تأذى الفريسة بظفر ولا ناب ولكن تجد من اللذة كما أجد بلطف ربها العزيز”[mfn]رسالة الغفران: ص 305[/mfn]، وها هو طاووس يمر أمام معمر بن المثني فيتمنى أن لو وجده أمامه مطبوخاً بالخل “فيتكون كذلك في صفحة من الذهب، فإذا قضى منه الوطر، انضمت عظامه بعضها ثم تصير طاووساً كما بدأ، فتقول الجماعة، سبحان من يحيي العظام وهي رميم”[mfn]رسالة الغفران : ص 281[/mfn] فإذا مرت من أمام النحاة أرزة تمناها كل على طريقة الطهي التي يحبها “فتتمثل على خودن من الزمرد، فإذا قضيت منها الحاجة عادت بإذن الله الى هيئه ذوات الجناح”[mfn]رسالة الغفران : ص 283[/mfn] وهكذا يستطيع أبو العلاء من خلال “حرية التشكيل”، وما يتوالد عنه من تقنيات فرعية أن يقودنا الى منابع جديدة للإمتاع القصصي من خلال إعادة تشكيل الواقع وإذابة قيوده والتخفيف من جهامته و”أحرى بنا أن نزعم أن الفناء الذي يملأ أرجاء رسالة أبي العلاء لا يعدو _ إذا خلصت نفوسنا – نوعاً من تحرير النفس من الحزن والخوف”[mfn]د. مصطفي ناصف – محاورات مع النثر العربي، سلسلة عالم المعرفة سنة 1397 (العدد 218) ص 251[/mfn].
منابع الرسالة
إن قضية “المنابع الجديدة” تثير التساؤل حول تنوع منابع الحكاية ومصادرها في رسالة الغفران، وكما يقول رولاند بارت: “إن كل مادة تصلح لأن يشكل منها الانسان حكاية . يمكن أن تكمن الحكاية في الصورة الثابتة أو المتحركة أو في الإشارة أو في خليط من الإشارات والصور والكلمات، إنها كامنة في الأسطورة والخرافة والقصة والرواية والملحمة والتاريخ والمأساة والملهاة والمشهد الصامت واللوحة المرسومة والزجاج الملون، والأحداث المختلفة والحوار بين الأفراد، وهي موجودة تحت أشكال تكاد أن تكون غير متنامية في كل الأزمنة والأمكنة في كل المجتمعات[mfn]R. Barthes, Poetique du reeit.. E. Seuil Paris 1977 .p7. [/mfn].
والواقع أن رسالة الغفران امستلهمت كثيرا من هذه المنابع وفي مقدمتها التاريخ الذي استقت منه ذاكرة أبي العلاء كثيرا من الأحداث والتقطت كثيرا من الأسماء فوظفتها من خلال التحوير وإعادة التشكيل توظيفاً فنياً على نحو ما أشرنا، ولقد نعجب لكثرة الأسماء التاريخية التي وردت في رسالة الغفران والتي تكاد تبلغ ستمائة اسم[mfn]فهارس الأعلام في طبعة د. عائشة عبدالرحمن ص 595 وما بعدها[/mfn].
مشكلة غابة كثيفة من الأسماء الحقيقية كان يمكن أن تكون عائقاً أمام حرية الحركة لدى الحاكي التخييلي ولكن أبا العلاء كان يعرف طريقه الخاص في المسارب الضيقة في غابة الأسماء، ولقد يلاحظ أن معظم هذه الأسماء يلتقي بها ابن القارح في الجنة أو في مشاهد الحشر وأن نفراً قليلاً هم الذين اضطرهم أبو العلاء أن يرافقوا إبليس في النار، حتى أن بعضاً من شعراء الجاهلية تسرب إلى الجنة لأن بيتاً قاله قد غفر له، وإلى جانب التاريخ توجد “الأساطير” كمصدر قصصي للحكاية عند أبي العلاء ومعظم هذه الأساطير تنتمي الى عالم الحيوانات والزواحف مثل أسطورة الحية الوفية “ذات الصفاء”[mfn]رسالة الغفران ص 364[/mfn] التي وفت لصاحبها وكانت تصنع إليه الجميل، ولكن صاحبها لم ينس أنها كانت قد قتلت أخاه من قبل فحاول أن يغدر بها وأن يضربها بالفأس وهي على الصخرة “فلما وقيت ضربة فأسه، والحقد يمسك بأنفاسه، ندم على ما صنع أشد الندم… فقال للحية مخادعاً: هل لك أن نكون خلين؟ فقالت: لا أفعل وإن طال الدهر”. وتلك الحية يلتقي بها ابن القارح في الجنة جزاء وفائها.
ومنها الحية التي كانت تسكن في دار الحسن البصري وحفظت عنه القرآن من أوله إلى آخره[mfn]رسالة الغفران ص 367[/mfn]. فلما توفي رحمه آلله، انتقلت إلى جدار في دار أبي عمر بن العلاء فراجعت عليه القرآن وقراءاته وهي تحاور ابن القارح في القراءات ورواياتها وعندما يشتد عجبه تدعوه إلى الإقامة وتعده بأنها يمكن أن تنتفض فتصير مثل أحسن غواني الجنة، لو ترشف رضابها لعلم أنه أفضل من الترياق، ولو تنفست في وجهه لعلم أن ريح عبلة التي كان يحن اليها عنترة في قوله:
وَكَأَنَّ فارَةَ تاجِرٍ بِقَسيمَةٍ سَبَقَت عَوارِضَها إِلَيكَ مِنَ الفَمِ
ليست بجانب ريحها إلا كرائحة البخر، في الفم، لكن ابن القارح يصاب بالذعر من اقتراحها وينصرف.
ومن عالم الحيوان يلتقي ابن القارح في الجنة “بأسد القاصرة ” ويعجب عندما يجده يلتهم من الظباء المئة والمائتين وهو الذي كان في الدنيا “يفترس الشاة العجفاء فيقيم عليها الأيام لا يطعم سواها شيئا”[mfn]رسالة الغفران ص 204[/mfn].
فإذا ما سأله عن خبره، عرف أنه الأسد الذي استجاب لدعوة الرسول كيف عندما جاءه عتبة بن أبي لهب وكان النبي قد زوجه ابنته رقية قبل البعثة، فلما بعث جاء عتبة وقال : يا محمد، أشهد أن قد كفرت بربك وطلقت ابنتك، فدعا الرسول ربه أن يسلط عليه كلبا من كلابه، فخرج الى الشام مع ركب حتى إذا كانوا بوادي القاصرة وهي أرض فيها سباع نزلوا فافترشوا صفاً واحداً فقال عتبة: أتريدون أن تجعلوني حجرة، لا والله لا أبيت إلا في وسطكم، فجاء السبع ليلاً وهم نائمون، فشم رؤوسهم رجلاً رجلاً، حتى انتهى إلى عتبة فأنشب أنيابه في صدغيه، فصاح : قتلتني دعوة محمد[mfn]الغفران، هامش ص 304 والمراجع المبينة به[/mfn]، ويلتقي كذلك في الجنة بالذئب الذي تكلم على عهد النبي (صلى الله عليه وسلم) عندما خاطب أهبان الأسلمي وكان في غنم له فهجم عليها ذلك الذئب فلما صاح به الاسلمي، وكان الذئب جائعاً جريحاً منذ ليال كثيرة أقعى على ذيله وخاطبه قائلا: أتحول بيني وبين رزق قد ساقه الله إلي؟[mfn]رسالة الغفران ص 307[/mfn].
الصور الاستعارية في الرسالة
وإلى جانب الأساطير قد تكون الصورة الاستعارية العابرة تبعاً لحكاية طريفة، فأنهار الخمر في الجنة “تلعب فيها أسماك على صور السمك بحرية ونهرية وما يسكن في العيون التبعية إلا أنه من الذهب والفضة وصفوف الجواهر … فإذا مد المؤمن يده الى واحدة من ذلك السمك شرب من فيها عذبا”[mfn]رسالة الغفران ص 168[/mfn] فهذه الصورة الاستعارية التي يتردد نمطها كثيراً في رسالة الغفران _ تفجر نبعاً للحكاية، يضاف إلى ينابيع الإنسان والجان والزواحف والطير والحيوان.
التعبير القصصي
ينسج أبو العلاء من هذه الروافد ألواناً من الفن القصص تتراوح أشكالها بين التعبير القصصي والمشهد القصصي، والمشاهد المتتابعة والقصة المكتملة، ويتحقق في بعضها الكثير من العناصر المألوفة في الفن القصصي، من التشويق والعقدة والمفاجآت للحل.
وفي إطار المشاهد القصصية المتتابعة، تأتي حكاية نجاة الأعشى من النار، فقد سأله ابن القارح عندما فوجئ به في الجنة؟[mfn]رسالة الغفران ص 178و181 بتصرف يسير[/mfn]: “كيف كان خلاصك من النار، وسلامتك من قبيح الشنار؟ فيقول: سحبتني الزبانية إلى سقر فرأيت رجلاً في عرصات القيامة يتلألأ وجهه تلألؤ القمر. والناس يهتفون به من كل أرب : يا محمد يا محمد.، الشفاعة الشفاعة !! نمت بكذا ونمت بكذا، فصرخت في أيدي الزبانية: يا محمد أغثني فإن لي بك حرمة! فقال : يا علي، بادره فانظر ما حرمته؟ فجاءني علي بن أبي طالب صلوات آت عليه وأنا أعتل كي ألقى في الدرك الأسفل من النار، فزجرهم عني وقال : ما حرمتك فقلت أنا القائل:
فَآلَيتُ لا أَرثي لَها مِن كَلالَةٍ وَلا مِن حَفىً حَتّى تَزورَ مُحَمَّدا
ننَبِيٌّ يَرى ما لا تَرَونَ وَذِكرُهُ أَغارَ لَعَمري في البِلادِ وَأَنجَدا
ولقد كنت أؤمن بالله و بالحساب وأصدق بالبعث وأنا في الجاهلية الجهلاء.. فذهب علي الى النبي، (صلى الله عليه وسلم) فقال: يا رسول الله، هذا أعشى قيس قد روي مدحه فيك، وشهد أنك نبي مرسل، فقال: هلا جاءني في الدار السابقة؟ فقال علي: قد جاء، ولكن صدته قريش، وحبه للخمر فشفع لي، فأدخلت الجنة على ألا أشرب فيها خمراً فقرت عيناي بذلك.. وكذلك من لم يتب من الخمر في الدار الساخرة، لم يسقها في الآخرة”.
ويلاحظ أن المشاهد القصصية تتوالى في سهولة ويسر، بل وفي مستوى لفري ميسور يختلف عن المستوى الذي تلجأ إليه رسالة الغفران ذاتها عندما يتصل الأمر بمناقشة اللغويين أومحاجة النحاة أو محاكاة الشعراء من بني الإنس أو الجان، وكأن القص في ذاته يمثل مستوى من مستويات التأليف يلبس له الراوي مسرحه الخاصة، ولا يجيء عرضاً أثناء الحديث عن أمر آخر، و لنتأمل في “العقبات ” التي تنتشر في المجرى القصصي وتجعل أنفاس السامع لاهثة وراء الحدث، فبين سحب الزبانية ومصادفة رؤية وجه الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وهو أخ الأعشى وإصرار الزبانية، وقدوم علي وسحب الأعشى إلى الدرك الأسفل، وزجر علي لهم، وسماع القصيدة والاعتراض بأنها لم تقل على سمع الرسول في الدنيا والاعتذار بمؤامرة قريش وحب الخمر والانتهاء بالشفاعة مع شرط يمثل المفاجأة الأخيرة، الحرمان من شرب الخمر لعاشق الخمر في جنة تجري بها الخمر أنهاراً، هذه المواقف المتعارضة المتكاملة تشف عن جانب كبير من براعة القصاص في رسالة الغفران.
قصة ابن القارح
على أن القصة التي بلغت أوج الاكتمال في رسالة الغفران دون شك هي قصة ابن القارح نفسه في موقف الحشر، فهي تعد قصة مكتملة بالمعنى الفني، وهي قد سميت “قصة” على لسان أبي العلاء نفسه عندما قال ابن القارح في مقدمتها : “أنا أقص عليك قصتي”[mfn]رسالة الغفران، ص 248[/mfn] وهو تعبير يحل محله في المشاهد القصصية الأخرى مقدمات أخرى مثل ما خبرك ؟ ما حدثك أخبرني عن كذا. . الخ .
وهي من حيث الكم تحتل أكبر مساحة متصلة لموقف واحد يحتل نحو خمس عشرة صفحة[mfn]الغفران، بنت الشاطئ، من ص 246 إلى 262[/mfn] إلى جانب تغيير الأماكن التي تدور فيها الأحداث من مشهد الى مشهد، واختلاف شخوص الأبطال كذلك من موقف الى موقف ومرد هذا التميز دون شك، يعود الى أن هذه القصة تعد محور “رسالة الغفران ” فهي تمثل الرد الرئيسي على رسالة ابن القارح والإجابة على تساؤلاته الحيرى حول قبول التوبة واحتمال تحقق الغفران، وهي إجابة لم يشذ أبو العلاء أن يجعلها من جنس السؤال فتكون طرحاً لاحتمالات أو سرداً لأدلة ولكن أراد أن يجعلها معادلاً فنياً قصصياً، لا يخلو فيها تحقق الغفران المرجو من عقبات يشيب لها الولدان، وتتعرض خلالها صكوك التوبة للضياع والفقدان ويحل اليأس محل الأمل في كثير من مراحل الطريق ويحقق التشويق والإثارة القصصية هدفها الفني حتى يتحقق التطهير في نهاية المطاف بالخلاص والغفران.
وتبدأ القصة باستشعار ابن القارح للبعد الزمني الطويل ليوم الحشر “في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة” ويشتد عليه الظمأ، وينظر في كتاب أعماله حين يقدم له فيجد حسناته قليلة متفرقة تفرق النبات الضئيل في العام الجديب وفي آخرها أمل للتوبة كأنه مصباح راهب رفع لسالك السبيل، ويقيم ابن القارح في الحشر زهاء شهرين يخاف بعدها من الفرق في العرق فيبحث عن حيلة للخروج من الموقف، ويفكر بكتابة قصيدة يمدح بها رضوان خازن الجنة، فيكتبها وينشدها على مقربة منه فلا يلتفت اليه فيظن أن القافية لم تعجبه فينتظر نحو عشرة أيام أخرى ليكتب قصيدة جديدة في مدح رضوان على قافية مغايرة فيكون مصيرها كمصير الأولى، ويجرب على كل الأوزان والقوافي دون فائدة وأخيرا يصرخ في رضوان أنه أنشد على مسامعه عشرات القصائد في مدحه لينجيه من العطش فلم يستجب له، ويسأله رضوان “وما الأشعار؟ فإني لم أسمع بهذه الكلمة قط إلا الساعة”.
ويحاول أن يشرح له طريقة العرب في استمالة النفوس عن طريق الشعر فلا يجد لديه أذنا صاغية. ويتركه إلى خازن آخر من خزنة الجنة يقال له “زفر” فيجرب معه قصائد المديح دون جدوى ويقول له زفر عن شعر المديح: “أحسب هذا الذي تجيشني به قرآن إبليس المارد ولا ينفق على الملائكة”.
فيئس من تأثير الشعر على خزنة الجنة وبحث عن طريقة أخرى للشفاعة وبينما هو يتجول رأى وجهاً نورانياً تحيط به كوكبة متلألئة فسأل فعرف أنه حمزة وحوله شهداء أحد، فكتب قصيدة يمدح بها حمزة، ومع أن حمزة استنكر الشعر في موقف الحشر إلا أنه في نهاية الأمر أرسل معه رجلاً إلى علي بن أبي طالب ليخاطب النبي (صلى الله عليه وسلم) في أمره فلما سمع علي قصته، سأله عن صحيفة حسناته، ففتش عنها فتبين أنها ضاعت منه عندما وقف في زحام حلقة لجماعة من النحاة يتناقشون وفيها صك التوبة فلما رجع يبحث عن الصك لم يجده فحزن حزناً شديداً، لكن علياً أخبره بأنه يكفي أن يجد شاهدا يشهد على توبته في الدنيا، فقال إنه قاضي حلب عبدالمنعم بن عبدالكريم فنودي به فحضر بعد لأ ي وأقر بتوبته ومع ذلك فعندما سأل عليا أن يشفع له ليصرفه من موقف العطش، قال له : إنك تروع مطلبا صعبا ولك أسوة بولد أبيك آدم .
جماعة من “العترة ” الطيبين فذكرهم بأنه كان إذا فرغ من كتاب قال “وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى عترته الأخيار الطيبين” ورجاهم بحق هذا الدعاء أن يسألوا له فاطمة عليها السلام إذا هي “خرجت من الجنة أن تسأل أبدها لمحي يشفع له، ويخرج موكب فاطمة وفيه السيدة خديجة وأبناء النبي (صلى الله عليه وسلم) ممن ماتوا أطفالاً، ويطرح عليه أمره فتأمر بأن يتعلق بركاب أخيها إبراهيم لكي يجتاز الزحام وصولاً إلى مقام النبي في موقف الحشر، وينتهي، الأمر بالشفاعة له والأذن بدخول الجنة بعد إظهار صك التوبة وختمه بخاتم النبوة.
وعندما يؤذن له بعبور الصراط يهتز اهتزازاً شديداً فتؤمر إحدى الجواري لكي تصطحبه وهو يتساقط يميناً ويساراً فتقترح عليه أن تريحه وأن تحمله على ظهرها فتعبر به الصراط كالبرق الخاطف، لكنه عندما يصل إلى باب الجنة يسأله رضوان عن “جواز” الدخول، ويتبين له أنه لا يحمل جوازاً ويكاد يعود أدراجه من جديد لولا أن التفت إبراهيم صلى آتو عليا وسلم . فرآني وقد تخلفت عنه، فرجع إلي فجذبني جذبة حصلني بها في الجنة.
ألا يحتمل أن تكون هذه القصة الجميلة هي الرد الفني الذي تشكل في نفس أبي العلاء عند تلقي رسالة ابن القارح، لكنه خاف إن هو قدمها وحدها أن تثور التساؤلات عن مشروعية استشراف عالم الغيب، والقدرة على تصور ما يدور فيه، . وتقريبه الى النفوس بلغة تألفها فكانت بداية الرحلة الطويلة عند أبي العلاء من الكلمة الطيبة للشجرة الطيبة للأصل الثابت وتحته الأنهار للفرع الممتد في السماء ينشر الظلال، للصحاب يتسامرون على شواطيء الأنهار وتحت ظل الأشجار ويشربون خمر الجنة وعسلها، ثم تمتد الرحلة فتشمل كثيرا من الأدباء والشعراء، ويجيء ابن القارح بينهم فلا يكون حديثه مستغربا ولا غفرانه مستبعدا، ويكتسب الأدب العربي والعالمي من وراء هذا كله عملاً أدبياً رائداً وفناً قصصياً رائعاً؟