ما أحوجنا لاستعادة المعري!

ناجون

-

يمثل الشاعر الفيلسوف أبو العلاء المعري شخصية استثنائية، ليس في ثقافتنا العربية فحسب، وإنما في الثقافة الإنسانية جمعاء، لما تضم كتاباته وأشعاره من مضامين إنسانية وفلسفية تتجاوز حدود الزمن العابر، لتتمحور حول مركزية الإنسان الحامل لكينونته الواعية والحرة معاً، بعيداً عن عرقه وانتمائه المكاني والديني، وحتى الاجتماعي.

الإنسان عند المعري هو الكائن المتميز عن سائر الكائنات بالعقل.
مع العقل يجد الإنسان معنى لوجوده في الحياة.. 
مع العقل تزدهر حرية الإنسان الفكرية..
الحرية التي ينبثق منها شرط العدالة العام حيث لا مكان لتمييز إنسان عن آخر، ولا مكان لسلطة مستبدة تتأسس على أوهام مرفوضة في عالم العقل..

وفي المقابل فإنه مع انتفاء العقل ينحدر الإنسان إلى مجرد كائن (حيوان) آخر على وجه البسيطة، كائن تحركه غرائزه و نوازعه اللاواعية، وهي بهذا المنطق شريرة بالضرورة كما يراها المعري .

تنطوي دعوة المعري إلى تحرير العقل البشري على مستويات متعددة: بدءاً من الرفض والاحتجاج على الإسفاف والتفاهة، مروراً بنبذ الخرافات والسنن والأنظمة القائمة عليها، سواء الدينية منها أو التاريخية، وصولاً إلى إعلانه الثورة المضمرة بأسلوب لم يكن زمانه يسمح بأكثر منه.

فهو إذ يرفض الأديان بقوله:

فإنما يرفض استنادها الفكري إلى تصورات غير قابلة للتصديق، كما يرفض تجلياتها الاقتصادية القائمة على قبض الإتاوات، وبداهة يرفض سلطة القمع المنبثقة منها وعنها، ويشير صراحة في الكثير من أشعاره إلى العلاقة بين الجهل والإيمان بالخرافات وبين الاستبداد كقوله:


ومن هنا يأتي رفض المعري لكل ما انبثق عن الديانات من طوائف ومذاهب وشرائع، وقد تحولت إلى تلوّنات لا هم لها سوى ادعاء الحقيقة الحصرية لها وحدها، وتوكيد أفضليتها وتعاليها على الآخرين، وهي إذ تتعالى عليهم تبيح ضمناً وعلناً كافة الممارسات العنصرية ضدهم، وفي المحصلة لا تفعل سوى خدمة الطغيان، و ترسيم الأحقاد والفتن التي لا تنتهي بين أبناء المجتمع الواحد وبين الشعوب المتغايرة.

ولعل هذا الأمر جدير بالتوقف عنده فخطاب المعري لم يكن محلياً، ولم يكن داخلياً لأبناء قومه ولغته فحسب، وإنما كان خطاباً إنسانياً عابراً للحدود المكانية والزمانية، وهو ما يجعله راهناً، ومعاصراً على الدوام.

أدرك المعري بشخصيته الفذة وقدرته العالية على استبصار نتائج التشبع بالخرافة عند الفرد والمجتمع على حد سواء، ودور تلك الأوهام التي تستولي على العقل ولهذا كان يعري من خلال هذا الرفض  كل الحواجز الموضوعة بين الشعوب والقبائل والأديان المذاهب التي تفرق الإنسان عن أخيه الإنسان.

غير أنه لا بد من توضيح حول علاقة المعري بالأديان، إذ أن رفضه لها ولشرائعها لم يكن رفضاً لمفهوم الألوهة بحد ذاتها، وإنما كان رفضاً للأشكال التي تجلت فيها تلك الديانات، وللصور التي قدمتها عن الإله بذاته، فهو يصلي ويشكر الإله ويرجوه في الكثير من أشعاره.

ولم يكن المعري شاعراً على الطريقة المعهودة، يقول في الليل ما يمحوه النهار، وإنما كان شخصاً شديد الالتزام بمقولاته يجسدها فعلاً، بدءاً من التقشف والزهد رغم امتلاكه لمقومات البحبوحة، وصولاً إلى امتناعه عن التكسب في الشعر، أو التقرب من ممدوحيه طمعاً أو خوفاً منهم.

تلك الصدقية الذاتية العالية لدى الشاعر المستبصر، وذلك الالتزام الكبير بما يعتقده قولاً وعملاً، يدلان على حجم الإيمان العميق بهاجسه الإنساني، ومشروعه الذاتي، وعن حدود شغفه العقلي الذي كرس له كل حياته من أجل الوصول إلى الغاية المرتجاة  لديه.

إن المعري بحق جدير باللقب الذي أسبغ عليه: (شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء) وهو على الرغم من كتاباته التي تتسم بالصعوبة الشكلية بسبب اللغة من جانب، والعمق النظري لمقولاته من جانب آخر، إلا أنه بسيط وواضح بالمقدار ذاته، فكل ما يدعو إليه يتسق وينسجم مع الطبيعة الإنسانية والفطرة العقلية السليمة، فالهوية البشرية هي هوية العقل ومن دونها تتداعى تلك الميزة الحاصلة لنا وتحيلنا إلى مجرد كائنات بهيمية لا تفرقنا عن الوحوش، وان استخدام العقل منوط بالتحرر من التحيز المسبق لأية أفكار ظنية أو أفكار تقسيمية و تمييزية، أو شرائع محلية، وهو يدعو إلى الاعتبار من الحياة والنظر إليها  من منظور زماني أوسع.

وهو إذ يبدو متشائماً، فإن خلف تشاؤمه الظاهر تفاؤل كامن يفسره إصراره الذاتي على توكيد المقولات الإنسانية والدعوة إلى حياة خالية من كل أشكال الكذب والرياء والوهم، وإلا فإن التشاؤم الحقيقي يقود إلى الصمت وهو ما لم يفعله.

ففي صلب فلسفته ومقولاته تكمن الدعوة للبحث عن حياة تعاش كما هي من منظور الإنسان العاقل القادر على رؤيتها بعيداً عن الأقنعة والحجب، لا كما تبدو من منظور الوهم المتجذر عبر التاريخ.

وما رفض المعري للشرائع سوى دعوة إلى تأسيس عقد اجتماعي جديد يقوم على مفاهيم جامعة للإنسانية، في صلبها احترام الكينونة البشرية، وفضاؤها مجبول على ارتقائها بما تحمل من مقومات السمو والرفعة، وعمادها شرارة العقل البشري وحيثيات انطلاقه.

كما يمثل رفض المعري لما هو قائم، دعوة إلى المساواة والعدالة الدائمة، تلك العدالة القائمة على احترام الجوهر الإنساني في الإنسان، وعدم الاستبداد، ورفض التمييز بين البشر أو استغلالهم تحت مسميّات الدين أو المذهب أو التصور الذاتي، أو تحت أي ذريعة كانت .

ولعل ما يزيد من أهمية المعري إلينا نحن السوريين هي تلك المشابهة بين الزمن الذي عاشه وبين ما نحن فيه، إذ عاصر المعري تفكك الدولة العباسية وانحلالها إلى دويلات وممالك، وترافقت تلك الحقبة مع سيطرة عناصر غريبة على مفاصل السلطة في بغداد مع بقاء الخليفة كدمية تقاد من وراء الستار، وانكشفت الحدود أمام غارات الروم، ولم تمض سوى أعوام قليلة على موته حتى ابتدأت الغزوات الصليبية.

ما أحوجنا لاستعادة المعري!