لماذا المعري؟

فارس حلو

فنان سوري

للتاريخ عظماؤه يولدون كما نولد ويعيشون كما نعيش، يرحلون بأجسادهم كالآخرين، ولكنهم يحفرون ظلالهم على جدار الزمن، وأبو العلاء المعري واحد من هؤلاء، أطفأت الحياة نور عينه، لكنه استبصر بقلبه وفكره، وأضاء بروحه  وعقله، تاركاً لنا خيطاً من نور لا ينطفئ مادام الإنسان حياً.
في المعرّة ولد وعاش، شاعراً، وفيلسوفاً، وطالباً للعلم و معلّماً في بغداد لوهلة من الزمن، وزاهداً و معتكفاً في بيته منصرفاً إلى العلم والتأليف، مبتعداً عن المال والسلطة.

أدرك المعري أن القيمة العليا للمبدع لا تتوقف عند حدود نتاجه الفني أو الفلسفي مهما علا شأنها، وإنما تكمن في سلوكه ومواقفه، وأدرك المعري أن الكرامة والأخلاق هما جوهرة التاج في هذه الحياة، وهما قميص الإنسانية الأبهى، والقضية الأسمى التي يتمحور حولها الوجود.

كل ما قاله المعري وما دعا إليه يصب في مجرى إعلاء شأن الإنسان والإنسانية، كان همّه أن يسير بها نحو جوهرها الأصيل، أن تستعيد الحياة معانيها وجمالها من خلال رفع الظلم عن الناس، واعتبارهم سواسية، و أحرار، لا تقيدهم أفكار غايتها أن تستعبدهم، ولا يقيدهم خوف من حاكم أو ظالم.

كان المعري عادلاً في دعوته ونبيلاً فيها، لم يطلب من الناس شيئاً لم يفعله، كان بوسعه أن يدق أبواب السلاطين، وأن يمدحهم ليتكسّب منهم مالاً كثيراً، أو مناصب عليا، لكن احترامه لذاته، واحترامه لجوهر الثقافة كان أعلى من كل اعتبار، جسّد كل ما دعا إليه ومثله موقفاً سلوكياً، فلم يمدح أحداً، ولم يمالئ  صاحب جاه أو سلطة، وظل وفياً لما تنطوي عليه الثقافة من حرية وكرامة ولما تحمل من قيم سامية.

ولم يكن زهد المعري في الحياة، زهد العاجز عن نيل مفاتيحها، وإنما كان نأيا بروحه ونفسه عن  الانحدار الذي يحذر منه، كان  زهده انحيازا للحياة، كان يريدها كغيره، ولكنه يريدها للجميع، يريدها محمولة على جناحي الحرية والمعرفة، يريدها مقرونة بمعانيها، كما يليق بها أن تعاش، وكما يليق بالإنسان أن يحياها.

فضّل المعري أبواب العقول على أبواب السلاطين وبقي طوال حياته يدق عليها محاولاً فتحها و هز رتاجها المغلق، كانت غايته أبعد من حياته الشخصية ومنافعه اليومية، كان المعري شاعراً وفيلسوفاً، وإنساناً، مهجوساً بالحياة، بالبحث والتنقيب عن مكدّراتها، والدعوة الى صفائها، كان إنساناً حقيقياً ومثقفاً نبيلاً، كانت حياته هي كلمته، وكلمته هي حياته لا فصل بينهما ولا فرق.

استعادة المعري الآن هي استعادة لكل المعاني والقيم النبيلة التي جسدها، هي استعادة لعودة العقل والتفكير الحر، وهي دعوة لإزالة الظلم وإحقاق العدالة.
استعادة المعري في الوقت الراهن تعني للسوريين استعادة الحياة كما يجب أن تعاش، بعيداً عن التعصب والطغيان والموت والدمار.
استعادة المعري  السوري هي استعادة لسوريا الحرة.