كل عقل نبي

ثائر الزعزوع

شاعر ومترجم سوري

حديث سن كنت، ربما في الخامسة عشرة من عمري، حين اصطدمت بصوت يقرأ شعراً، عبر إذاعة دمشق، لم أعلم وقتها لمن تلك القصيدة التي كان يقرؤها ذلك الصوت الرخيم، لكن بيت شعر علق في رأسي، بدا و كأنه نداء موجه لي… رددته، و كأني أردد مزموراً أو آية:

جلس ذلك الفتى، الذي كنته، محاولاً أن يفهم معنى أن يكون العقل نبياً! أو ليس ثمة أنبياء و رسل يتبعهم الناس، ويسيرون على خطاهم، وينفذون تعاليمهم كاملة غير منقوصة؟

تلك أسئلة يطرحها فتى مسكون بالشعر على نفسه، فتغير ترتيب حياته، وربما تغيّر حساباته كلها، يظهر العقل في صورة كائن حيٍّ، فرد متفردٍ، قادر على أن يسير و على منيحمله أن يتبعه.. و لكن كيف؟

فكر لتكون موجوداً..

هكذا سوف يكتشف الفتى حين سوف يصبح شاباً، فيقرر ألا يصدق ما يقال له، عليه أن يفكر و يفكر، ويمنح السلطة الكاملة لعقله كي يقرر…

يبدو الأمر صعباً في مجتمعات تقتل النزوع الفردي: من خرج على الجماعة قتلوه.. و لكن كيف تكون ضمن جماعة ألغت المعرفة، و غيّبت العقل، فيما الصوت في رأسك يتنامى: كل عقل نبي.. كل عقل نبي.

هذه استقلالية ما بعدها استقلالية، و هي حرية ليس كمثلها حرية، فهي تمنح كل عقل تلك النبوة الخالصة ليقرر، و لا ينقاد. كي ينبذ الاتباع الأعمى للأوامر و التعليمات، هي إذاًتمرد، و هل الحرية سوى تمرّدٍ على البنيان و نقده.

عام 2003 اتخذت الجملة المدهشة “كل عقل نبي” عنواناً لمقالة أسبوعية كنت أكتبها في جريدة كنت أعمل فيها، أي محاكمة قد تضعها أسبوعياً تحت هذا العنوان؟ و إلى أي مدى يمكن أن تطلق سراح العقل لتعلق على ما يحدث حولك، متخذاً من منهج الشك الذي اقترحه قبل ألف عام أبو العلاء المعري، و قد حورب و كُفِّر عندها، فكيف تطرح أسئلة محرّمة؟

لم يتأخر الرد طويلاً، إذ وردني بريد إلكتروني يخبرني صاحبه الذي لا أعرفه أنني مرتدٌّ بسبب عنوان مقالتي الأسبوعية، أيصل الخوف من العقل إلى هذه الدرجة حقاً؟ لماذاتخشى شعوبنا العقل، و يجعلها تسير على غير هدى، تصيغ لكلام الشيوخ، الذين ستبين تجاربنا المتلاحقة، أنهم ليسوا سوى أدوات سلطة، و طلاب سلطة، تآمروا على وعينا ورغبتنا في التحرر و الحرية باسم الدين، و وضعوا الدين ستاراً يحجب العقول، ألم يقل لنا المعري ألاّ إمام سوى العقل؟ ألا يفعل منظرو السياسة في بلادنا الأمر نفسه؟ ألايصادرون عقول الجمهور و يبيعونه أوهاماً و أكاذيب، ألا يبدو الحاكم العربي وكأنه راعٍ يسوق أغناماً إلى الذبح، يطعمها، ويسجنها، ويجود عليها بهباته ومكرماته؛

ما يؤلم أن شعوبنا و رغم مرارة ما عاشته و ما تعيشه و ما سوف تعيشه، ما زالت تسير وراء شيوخ، و أئمة و مُدّعي سياسة، تسير و لا تكاد تستخدم عقولها، تؤخذ بالشعارات الفارغة والعنتريات الجوفاء، و تستدعي في مناماتها ماضياً ناصعاً تتغنى به، لكنها تحذف منه و بكل قسوة صوت المعري يناديها من جوف ذلك التاريخ: أيها الشعب، كل عقل نبي.