كفيف المشرق الذي أبصرَ كلَّ شيء

محمد المطرود

شاعر وناقد سوري

يُعدُّ أحمد بن عبد الله، المولود سنة793 م والمتوفى سنة 1057م والمعروف نسبة إلى مكان ولادته في (معرة النعمان) إحدى أقضية إدلب السورية ب ـ(أبي العلاء المعري) رائداً تنويرياً، ومجدّداً في الفكر العربي النقدي، بل والعالمي أيضاً إذا عرفنا أن رسالتهُ التصورية والمشيدةَ لبناء يوازي النّصّ الديني ويدحضهُ باعتبار فكرةُ الدين هي الضدّ من فكرة العقل بحسبِ المعري وتصوراتهِ التي تحكم بالموجود والملموس ولا تأخذ بالماورائيات، لتكون رسالةَ الغفران هي الكتاب الذي تناص معه الإيطالي (دانتي اليجيري) لحدّ التلاص، كذلكَ طرحهُ فكرة” مركزية العقل” والتي سبقت إعلانَ الفرنسي رينيه ديكارت بستةِ قرون، وما قولهُ:” كذب الظن لا إمام سوى العقل” إلّا فتحاً فلسفياً يذهبُ بالظنونِ إلى الهاوية، ويُعلي من شأنِ المحاكمةِ العقليةِ المؤسّسةِ على (لا) الشك والبراهين، ويبصرنا بفيلسوفٍ مغايرٍ يؤخَذُ منهُ ويكادُ يكونُ حراً وفكرتهُ أصيلة، بحيث لا يأخذُ من أحد!

في العلاقة مع العقل، ثمةَ علاقة مع الإنسان ومركزيتهِ، إذ أنّ هذا الكائنُ يتوزعُ على ثيمتي الخير والشر، وطبيعتهُ الأساس الشر، ولهذا يأتي العقل ليلعبَ لعبة الإكساب، ليكونَ الخير مكتَسَباً وحاجة مهمة لاستمرارِ البشرية، وهو ما يدفعُ المعري للاستغرابِ والاستهجان للشرَه البشري للشر، حينَ يعلمُ الجميعُ أنّ النهاية الحتمية هي الموت، فالسؤالُ المشروع هنا: لماذا كلُّ هذا الشر؟!

لعلّ مصطلح” جماعة تواصلية” والذي يتحدث عنِ العمى كعاهة وظيفية ميكانيكية، تجمع المعري بهوميروس وبورخيس وطه حسين وبشار بن برد وآخرين، يجعلُ قراءة أبي العلاء المعري ضمن هذه الجماعة التواصلية، ليفترقَ عنهم بآرائه التي تقارب تخومَ الراديكالية، حينَ ينتصر للسؤال والشكّ ودحضِ البديهيات والمسلّمات، ويرى الثبات في دائرة الدين تقييداً لحرية العقل وبالتالي تقييداً للإنسان، وما ينطبق على الدين، ينطبقُ على التشريعات والتي يجدها” مثيرةً للعداوات”.

وهنا سنجدُ” كفيف المشرق الذي أبصر كلَّ شيء” فعلاً قد أبصرَ حريتهُ في عماه ومشاكلاتهِ الكثيرةِ الذاهبةِ إلى المحاججة، حتى غدا فكرهُ وهو المتشائمُ على الدوام بوابةً للدخول على الإنسانية نقدياً، ولا ضيرَ من القولِ اليوم أنّ هذا الفكر يُقرأُ براهنيتهِ ومواكبتهِ للمنجز النقدي والفلسفي العالميين، كما لو أننا لا نبتعد عنهُ كأحدٍ سبقنا بعشرةِ قرون في الماضي، إنّما يسبقنا إلى اليوم وغداً، لنتعرّفهُ كمعلّم يبزُّ النظرية الجديدة بعلمهِ وفرادته.