في حضرة أبي العلاء المعري ماذا نقول؟

عمر كوش

كاتب وباحث سوري

هذه الكلمات والأسطر ليست استحضاراً لأبي العلاء المعري، لأنه حاضر بيننا على الدوام، حيث لم يغب عن الفكر الإنساني بتاتاً، بوصفه مثال الفكر الحرّ، والتفكير الخلاق، الذي لم يرتهن لأحد، فنحن في حضرة المعري. وفي حضرة الحاضر ماذا نقول؟

إنه المعري، الإنسان والفيلسوف والمفكر، الذي خط طريقاً مختلفاً في الفكر والتفكير، وسطّر رؤية عقلانية انتقادية، وتصوراً خاصاً للارتقاء الروحي، وبنى نظرية للذات، خطّت إلى الفكر الانتقادي والتقوى والوجودية، وسوى ذلك كثير. 

في حضرة المعري، يتحول الحلم الى درس، والفرق في معنى الكلمات إلى استغراق في العمل، ومن الخطأ المجازفة بالمراهنة على حكمة الإنسان، وعلى تخيل أرض جديدة وسماء أخرى، وهذا ما لا ننتظره نحن السوريون من حرب آل الأسد وحلفائهم ضدنا، تلك التي تتربص بنا لتفنينا جميعاً. وبوصفنا ناجون من المعتقلات السورية؛ من الموت، نستطيع أن نميز بين الصالحين والآثمين، رغم أن العذاب والموت مآل الجميع، وما زالت مطاردة القتل العبثي للانسان مستمرة، منذ جريمة القتل الأولى وحتى جرائم الحروب الحديثة.

نعم، إنه المعري، الذي سعى لايجاد علاقة جدل بين اجتهاد العقل والضمير والاعتبار لواقع مصالح الناس، كي يؤسس حرية التفكير، وحرية الاختيار العقائدي، فاجترح دين التقوى، معادلاً بينه وبين الدرس اللغوي والإبداع الفكري، وقاده ذلك إلى تقديم نقد لاذع للذات وللثقافة السائدة، في وقت لم يكتف فيه بالتقويض والتفكيك والهدم فقط، وإنما بإعادة بناء، تنهض على حرية الفكر والتفكير، وإرادة عنيدة للتحول بالخطيئة الأصلية إلى فعل فكري وثقافي، قوامه الابداع والقراءة المتجددة دوماً.

لا يقدم أبو العلاء، ونحن في حضرته، “رسالة الغفران” كرحلة إلى العالم الآخر فقط، بل محاكاة ساخرة للعالم الآخر، وسخرية من الوعي الزائف في هذا العالم، ومحاكاة تنهض على شحذ المعرفة والضمير. إنها تراجيديا منظور اليها من بعيد، فهل هناك من يعتبر؟

وحين نمضي بعيداً في حضرة المعري، نتلمس ذلك المنهج، الذي يقتضي اجتهاد عقل وضمير تقيّ، لم يُلزم سواه تعالياً أو جبراً، حيث تبدو اللزومية جوهراً لفلسفته في الوجود والمعرفة والأخلاق، تربط ما بين السلوك الفردي للإنسان والمعرفة اللغوية وبين ما يعتقده روحياً، كي يتأسس نظام معرفي، ينتصر للعقل والضمير، وللاجتهاد العازف عن السيطرة، عبر استدعاء المهمش والمهجور من الألفاظ، وإحاطة واستقصاء، اقتضت منه التزام الحروف، واستجابة لاتساع علوم الحروف، كي يشكل عالماً ومفهوماً خاصاً للغة والوجود، لم يحمله مقاصد غيب كما صنع غيره، بل أعرض عن الترتيب الأبجدي فيها لصالح الترتيب الهجائي، من جهة معناها واتصالها بالوجود، لذلك قال فيها: “علم ربنا ما علم، أنّي ألفت الكلم، أمل رضاه المسلم، وأتقي سخطا المؤلم، فهبّ لي ما أبلغ به رضاك من الكلم والمعاني الغراب”.

وتأخذنا الغربة في حضرة المعري إلى ما يشعرنا باختلاف ما يكتب وما يفكر به، حيث ننضم كسوريين، غرباء في بلاد المهاجر، إلى غريب الكلمات المألوفة، التي تغاير معانيها في نصه، عبر إرساء الغرابة، بوصفها إجراء واعياً بالمضامين الأخرى غير تلك المألوفة، ونمضي معه في رحلة البدء والمصير، كي نشحذ وسائلنا وعقولنا للتعرف على عالم لغوي شديد التعقيد، نعاني كثيراً في حلّ رموزه، ونقف على وظيفته المزدوجة، وارتباطه بالوعي الكتابي، كي نكشف عن دلالته الخفية البعيدة، إلى حال أدعى لانتهاج حرية الفكر والتفكير والتساؤل والمسؤولية والتجديد.