خلاصة القول في شخصية أبي العلاء المعري

علاء الدين عبد المولى

شاعر وناقد

يعطينا أبو العلاء المعري نموذجاً ثقافياً متعدد الدلالات، نظراً لكثرة المشاغل الأدبية والفكرية واللغوية التي قام بها. فكأنه كان يعي أن مشروعه تضيق به مساحة واحدة، فراح يبتكر المساحات شعراً ونثراً ورسائل وفكراً وشروحاً للشعر. وإذا كان المعري ليس فيلسوفاً بالمعنى المنهجي للكلمة، فإن كل ما تشتغل فيه الفلسفة كان من صلب اهتماماته. وإذا لم يعبر في منظومة تراتبية عن فلسفة ما، فإن حياته وتنظيره للحياة، وتطابق التنظير مع السلوك، كان يعني أنه يقدم رؤية متماسكة لوجهات نظره. أما إذا جعلنا تجربته ومشروعه موضع درس أكاديميّ صرف، فسوف نعثر على مفهومات تناولها أو جعل منها أسس تفكيره ورؤيته للأخلاق. وأول هذه المفهومات الشكّ، والقلق، والحيرة. وما ينتج عن هذه الأمور حين تدور حولها الشخصية البشرية، من عزلة ووحدة وألم نفسي وعقليّ.
المعري كان مثقفاً اعتراضياً مشككاً في كل اليقينيات الموروثة والمهيمنة. ولم يوفر من الشكّ والنقد حتى البديهيات الدينية، بما فيها المقدسات الكبرى. وهو يدرك أن من يقوم بهذا فسوف يعيش غربة فوق غربة. لأنه سيكون مطروداً من السياق الرسمي للثقافة والدين والأخلاق.

سوف نجد في شخصية وتجربة المعري بذوراً أساسية وواضحة لفلسفة التشاؤم التي سادت في أوروبا في عصور حديثة. ولم يكن تشاؤمه مزاجاً عرضياً بل كان محرّكاً بنيوياً لشخصيته وشعره وفكره. ونستطيع بجدارة أن نطلق على حالته تعبير (تشاؤم العقل)! وهو مصطلح فلسفي معاصر. وهو مصطلح يفيد في أهمية تشاؤم العقل، فالعقل حين يتشاءم يستنفر نفسه بنفسه من أجل خلق أسباب الإرادة والوعي للتغيير. هو إذاً ليس تشاؤماً سلبياً هدّاماً، لذلك نرى المعري لم يستسلم للتشاؤم وبقي يحارب كل أنواع الجهل والظلم والفساد.

كما تتضمن أفكاره وجهات نظر فريدة من نوعها فيما يخص عدم إنجاب الأولاد، وبالأساس كان ضد فكرة الزواج. نرى هنا موقفاً فلسفياً من مؤسسة اجتماعية رأى أنها تسبّب الآلام والمشاكل للنسل الذي تخلفه. هذه المؤسسة هي الزواج. وهو يفتخر في مقولة مشهورة له بأنه مولود كضحية جنى عليها أبوه، بينما هو لم يجنِ على أحدٍ. وكل ذلك يندرج في إطار عموميّ يتعلق برفضه لأي مصدر من مصادر الفساد والخلل التي يمكن أن تسيء لكينونة الإنسان.
وفي النهاية هو يحاكم الإنسان على ما يرتكبه بحق نفسه وبحق الوجود. لقد رأى أن هذا الوجود فاسد لأسباب كثيرة منها سيادة العلاقات الاجتماعية المبنيّة على المنفعة والانتهازية وليس على أساس عميق بنّاء. ومن أسبابها؛ الفساد في تكريس سلطة دينية تتخفّى بأيديولوجيا الإسلام وتحوّل الدين إلى شرعية للحكم المستبد سياسياً واجتماعياً وثقافيًا. لذلك كان يهوي بالنقد والهدم على مقولات الدين والسلطة معاً باعتبارهما من الأفق نفسه في الشرق العربي الإسلامي.

وكان يدعو إلى ما نسميه الآن بـ (التدين العقلاني). كحلّ منطقي ومقبول لمعضلات المجتمع حين تكون له حاجات للتدين. ومن هنا كان يجعل من العقل إماماً، ومفهوم الإمام في الثقافة الإسلامية مفهوم خطير حين يطيح به المعرب بهذه الطريقة فلا يعترف بإمامة سوى سلطة العقل.
هذه المقولة كافية لتجعل المعري واحداً من كبار الأحرار في تاريخ الثقافة السورية والإنسانية أساساً.

لقد كانت شخصيته خلاصة للفكر السوري الموغل في السؤال والبحث والتجديد والتهكم منذ عصور قديمة. فهو ينتمي للذهنية السورية الحضارية التي تجاوزت الجغرافيا.

وهذا ما يشجعنا على استدعاء المدونة الشعرية والفكرية التي تركها المعري، في دعم تحليلنا للمشكلات السياسية والثقافية والدينية التي تجثم على صدور السوريين الباحثين عن منقذ من ضلالهم السياسي والنفسي. إذ بأفكار المعري يمكننا الركون بأمان إلى سلطة القانون التي هي روح العقل، والتي لا مهرب منها لتحقيق عدالة ممكنة في مجتمعنا وعالمنا. فهذه العدالة لا يمكن أن تتحقق في ظل نظام سياسي مدعوم بنظام فقهيّ بطريركيّ متعنّت، يوهم الناس بأنه ممثل الله في الأرض. العقل والحرية هما ما يمكننا بهما أن نلخص التجربة السورية للمعري، لنجعل منه ليس مجرد شاعر عابر، بل هو بجدارة شاعر مفكر يتعايش مع احتياجاتنا الراهنة والدائمة.