بَيـْـنَ شــــاعر الفلاســــفة المعـري و فولتيـر العرب طه حسـين

خالد يونس خالد

أديب وباحث عراقي

القسم الأول

العقل وعاء العلم، والعلم شعاع نوراني إذا انكسر الوعاء انطفأ الشعاع وأفلَ الضياء إلى حين. والغضب والفزع والهوى يكسر الوعاء. واللغة شاغل أساسي من شواغل الفلسفة، والأدب طريق حاسم ومباشر إلى عقل المتلقي فوراً دون محاولة التمسح بحواسه في الطريق.
راودتني الأفكار كيف اجتمع شاعر الفلاسفة المعري[mfn]ذكر التبريزي أنه مامن كلمة نطقتها العرب إلا ويعرفها المعري. وقيل سابقاً إن المعري بالمشرق، وابن سيدة بالمغرب، ليس لهما في زمانهما ثالث في اللغة See: Taha Husayn, An Egyptian Childhood, the Autobiography of Taha Husayn, trans., E.H. Paxton , Washington 1981, p. 80[/mfn]، وفولتير العرب طه حسين[mfn]شكى طه حسين وهو طفل من عينيه، لكن أمه لم تكن تؤمن بالطبيب، فأصابه الرمد، ثم دُعِي الحلاق فعالجه علاجاً ذهب ببصره. (طه حسين: الأيام، ج1، ط59، دار المعارف، القاهرة 1981، ص17 و38 و120)[/mfn] في مجلس الفكر والأدب والفلسفة والشعر عبر الأطوار والأزمان؟
أبو العلاء المعري 973 – 1057م شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء.[mfn]‬أشار طه حسين في رسالته “ذكرى أبي العلاء” أن عزّة نفس المعري أبت أن يمدح أحداً من الزعماء والقادة، وأنه أي المعري كان رؤوفاً بالإنسان والحيوان، يرفض القتل، حتى قتل الحيوان. ومن مظاهر زهده أنه رفض الزواج لكي لا يجني على ابنه ما جناه عليه أبوه. كان عصره (القرن 11) عصر فوضى فتمثلت في تفكيره نزعات فلسفية مختلفة من عقلية برهانية، إلى تشكيكية لاأدرية، ومن إيجابية تسليمية، إلى سلبية هدامة”. كمال اليازجي، معالم الفكر العربي١، ط6، دار العلم للملايين، بيروت 1979، ص123-124.[/mfn]

طه حسين 1989-1973 لقب بعميد الأدب العربي، “فولتير العرب”، أديب باحث ومفكر ناقد.[mfn]حصل على دكتوراه في الآداب عن رسالته “ذكرى أبي العلاء”. وسافر إلى فرنسا لدراسة الفكر والفلسفة والاجتماع، وتزوج فتاة فرنسية. قال عنها “المرأة التي أبصرتُ بعينيها”. أكمل علمه في جامعة السوربون بفلسفة ديكارت مؤسس الفلسفة العقلية، ثم عاد إلى مصر وأصبح عميداً لكلية الآداب. فصل من وظيفته بسبب دعوته إلى منهج البحث العلمي. ثم أعيد إلى وظيفته مرة أخرى، وأصبح وزيراً للتربية والتعليم، وأحدث ثورة في الفكر الأدبي والنقد الأدبي. (خير الدين الزركلي: الأعلام، ج3، بيروت 1979، ص23.)[/mfn]

يقف الإنسان مفكراً، والفكر لا يبارحه، وهو يبحث عن أسرار اللغة والأدب والشعر، ليعرف مكنونات غاية اللغة في الأدب وغاية الأدب في اللغة. هذه أو تلك أو كلتاهما مزجتا بخواص النبوغ المشتركة من فكر وفلسفة وشعر ونقد في قريحة عقلين كبيرين من عقول معرفية مضيئة في مسالك الظلام، فأنارتها لكل ذي بصيرة لايتجرأ أن يسلكها إلاّ العقلاء من الأدباء والشعراء والحكماء والمفكرين.
ألتقي اليوم بشاعر الفلاسفة وفولتير العرب، فليسمح لي عشاق الفكر والأدب والشعر أن أكون ضيفاً في مجلس هذين المبدعين الذين شغلا العالم الأدبي بفكرهما وأدبهما وأسلوبهما العبثي السلس الجذاب. أجد نفسي على ساحل نهر أتمتع بالنظر إلى الطبيعة المتعطشة للحب والجمال الذي يعشق شعر المعري الخالد، وصحبة حسين الرائع. أسمع خرير النهر بين موسيقى الفكر والأدب بألحان “لزوم ما لا يلزم” حيث يتعانق التشاؤم الغارق في العقل الناضج مع تفاؤل الشعر وبسمات الفكر، وحديقة “ذكرى أبي العلاء” رسالة طه حسين، مجدد الفكر الأدبي بنقده المنهجي.
تأثر طه حسين بالمعري
يمثل أبو العلاء المعري الأساس الفكري لنظرية طه حسين النقدية، وهو بهذا يعتبر جزءاً من “منهج العبث” الذي مارسه طه حسين في نقده الأدبي. وعندما يتحدث طه حسين عن المعري، فإنما يمثل شخصيته الأدبية والفكرية في بعض جوانبه النقدية لأدبيات الآخرين. وعليه يمكن القول أن عميد الأدب العربي طه حسين تأثر بآراء أبي ‬العلاء المعري ‬وشعره وفلسفته في ‬نظريته النقدية. ‬وقد لقبَته (مَي ‬زيادة) في ‬رسالتها إليه بأنه ‬(أبو العلاء وڤولتير معاً)‬، ‬وهنأته بعودته إلى الجامعة المصرية عام 1934 ‬وذلك بعد إبعاده منها بسبب كتابه ‬(في ‬الشعر الجاهلي) ‬فابتدأت رسالتها بـ ‘‘‬يا أبا العلاء‘‘ ‬وهذا ‬تقديراً له لِما لأبي ‬العلاء المعري ‬من تأثير فيه، ‬ولما لأبي ‬العلاء من مكانة في ‬الأدب العربي.[mfn]رسالة مي ‬زيادة إلى طـه حسين في 28 ‬نوفمبر/تشرين الثاني 1934، وأيضاً: ‬نبيل فرج‬، ‬طه حسين ومعاصروه‬، ‬دار الهلال‬، ‬رقم 125‬، ‬القاهرة 1994، ص300[/mfn]‬ واعتبره ‬الكاتب المصري ‬سامي ‬الكيالي ‬أنه “‬مَعَري ‬القرن العشرين، ‬ومفخرة مصر والعرب”.[mfn]سامي ‬الكيالي: مع طه حسين، ‬ج1 ‬، ‬ص91.[/mfn]

لقاء في محراب العقل

أفكر مرة تلو مرة، وأنا الزائر، أريد أن أروي ظمئي بالماء الزلال من ينبوع النقد الأدبي الذي لا يرحم في جنينة المعري الغناءة، وعلى جانبه أسمع ترنيمة أسلوب العبث المزخرف بألحان حب عميد الأدب العربي للأدب والفكر والفلسفة، وحبه المغرم بلا انتهاء لأبي العلاء المعري. ينهض شاعر الشعراء من مرقده بعد رحلته الطويلة في رسالة الغفران إلى العالم الآخر وينشد:

[poem]
قَد كثُرَت في الأَرضِ جُهّالُنا ** وَالعاقِلُ الحازِمُ فينا غَريب
وَإِن يَكُن في مَوتِنــا راحَـةٌ ** فَالفَرَجُ الـوارِدُ مِنّـــا قَريب
[/poem]

جاءنا الأديب طه حسين، بعد أن أنفق أربعة أعوام في الأزهر، وكان يعدها أربعين عاماً يسمع كلاماً معاداً وأحاديث لا تمس قلبه ولا ذوقه، بدأ يفكر أن أمامه ثمانية أعوام أخرى، سيعدها ثمانين عاماً كما عدّ الأعوام الأربعة التي سبقتها.[mfn]طه حسين، الأيام، ج 3، ص 3-4[/mfn] وفي هذا كله؛ سمع اسم الجامعة، (الجامعة المصرية/جامعة القاهرة حالياً)، فترك الأزهر والتحق بالجامعة، وحصل على شهادة دكتوراه في الآداب عن رسالته الأولى بعنوان “ذكرى أبي العلاء”. وفي ‘‘تلك الأيام قدّم عضو من أعضاء الجمعية التشريعية اقتراحاً يطلب فيه أن تقطع الحكومة معونتها عن الجامعة لأنها خرَّجت ملحداً (وما هو بملحد) هو صاحب رسالة “ذكرى أبي العلاء”[mfn]طه حسين، الأيام، ص 140.[/mfn]. لكنه سحب اقتراحه بعد أن هدده الخديوي سعد بأن صاحب الرسالة سيقدم طلباً إلى الحكومة أن تقطع معونتها عن الأزهر، لأنه تعلم في الأزهر قبل أن يتعلم في الجامعة.[mfn]طه حسين، الأيام، ص 140[/mfn]

حوارية بين المتنبي والمعري وحسين

جاء أبو الطيب المتنبي مسرعاً ليدافع عن طه حسين فأنشد باعتزاز:

[poem w=”80%”]
ذو العَقلِ يَشقى في النَعيمِ بِعَقلِهِ ** وَأَخو الجَهالَةِ في الشَـقاوَةِ يَنعَمُ
وَالناسُ قَد نَبَذوا الحِفــاظَ فَمُطلَقٌ ** يَنسى الَّذي يولى وَعـــافٍ يَنـدَمُ
[/poem]

وأقدم المعري أبو العلاء من بعيد وقال:

[poem]
فُقِدَت في أَيّامِــكَ العُلَمــاءُ ** وَاِدلَهَمَّــت عَلَيهِمُ الظَلمـــــاءُ
وَتَغَشّى دَهماءَنا الغَيُّ لَمّا **  عُطِّلَت مِن وُضوحِها الدَهماءُ
[/poem]

فجاوبه المتنبي:

[poem w=”80%”]
عِش عَزيزاً أَو مُت وَأَنتَ كَريمٌ ** بَينَ طَعنِ القَنا وَخَفقِ البُنودِ
[/poem]

فقال أبو العلاء:

[poem w=”80%”]
نَرجو الحَياةَ فَإِن هَمَّت هَواجِسُنا ** بِالخَيرِ قالَ رَجاءُ النَفسِ إِرجاءَ
وَما نُفيقُ مِنَ السُكرِ المُحيطِ بِنا ** إِلّا إِذا قيلَ هَذا المَوتُ قَد جاءَ
[/poem]

فلم يبق أمام طه حسين، بعد أن شرب من كأس الشاعرين أطيب ما شرب، إلّا أن ينقد أولئك الذين يخافون من النقد الأدبي، ويعتبرون الأدب العربي القديم مقدس لا يشمله النقد، ولا ينبغي التحقق من صحته، لأنهم كسالى العقول يخافون من منهج البحث العلمي. وما أن انتهى حسين من نقده حتى أنشد أبو العلاء:

[poem w=”60%”]
أَقرَرتُ بِالجَهلِ وَادَّعى فَهَمي ** قَومٌ فَأَمري وَأَمرُهُم عَجَبُ
[/poem]

فتذكر عميد الأدب العربي غرامه لشريكة حياته (سوزان الفرنسية) التي رأى الدنيا بعينيها، وقال في قرارة نفسه حين اشتكت منه قرينته: كنتُ على حق حين قلتُ لها بعزة نفس وإباء: “إننا لم نخلق لنعيش سعداء، إنما خلقنا لنقوم ما ينبغي علينا أن نقوم به”.
لم يغب الفكر في كل هذا الحوار، فالفكر توأم لشعراء العقل والأدب الحي. فكثير من الفلاسفة الكبار كانوا شعراء وأدباء منهم: فولتير: شاعر وكاتب مسرحي، نيتشه: أديب وفيلسوف، بول فاليري: شاعر العقل، هيبوليت تين: ناقد ومؤسس المنهج التاريخي، ألبرت كامو: كاتب مسرحية ورواية، مونتسكيو: مفكر وأديب وصاحب روح القوانين، أبو الطيب المتنبي: فيلسوف القوة بين شعراء الحكمة بلا منازع: 

[poem w=”60%”]
عِش عَزيزاً أَو مُت وَأَنتَ كَريمٌ ** بَينَ طَعنِ القَنا وَخَفقِ البُنودِ
فَاِطلُبِ العِزَّ في لَظى وَذَرِ الذُلـ **  ـلَ وَلَو كانَ في جِنانِ الخُلودِ
[/poem]

بدر شاكر السياب: مجدد الفكر بتجديد الأدب، جميل صدقي الزهاوي: شاعر وفيلسوف، وكثيرون غيرهم.

عنصر الفكرة

‘‘الفكرة عنصر هام من عناصر الأدب الحي، إن طغت عليها العاطفة، أو غلب عليها الخيال، أو حجبها رونق الأسلوب أحيانا … ولئن كانت العاطفة، وأحيانا الخيال، أبرز في الأثر الشعري من الفكرة، فإن الفكرة في الأثر النثري أغلب عليها بوجه العموم‘‘.[mfn]كمال اليازجي، معالم الفكر العربي، ط 6، دار العلم للملايين، بيروت 1979، ص 103[/mfn]

مذهب الشك عند المعري

– التشكك والنظر الفلسفي: أبو العلاء المعري. شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء، شعره أشبه ‘‘بتأملات الفلاسفة‘‘، ولا سيما في ديوانه “اللزوميات”. من شعراء القرن الحادي عشر. كان عصره عصر فوضى. من أحب الشعراء لدى طه حسين. نزعاته الفلسفية متنوعة من عقلية برهانية، إلى تشكيكية لا أدرية، ومن إيجابية تسليمية، إلى سلبية هدّامة. فقوله في خلود الروح وهلاك الجسد:

[poem w=”70%”]
يُفَرِّقُ بَينَ الشَخصِ وَالرَوحِ حادِثٌ ** أَلا إِنَّ أَيّــــامَ الفِـــراقِ حُســـــومُ
إِلى العالَــمِ العُلوِيِّ تُزمِــعُ رِحلَةً ** نُفوسٌ وَتَبقى في التُرابِ جُسومُ
[/poem]

واتهم الأديان جملة (إذا أُسيئت فهمها) لاستسلامها للتقليد:

[poem]
هَفَتِ الحَنيفَةُ وَالنَصارى ما اِهتَدَت ** وَيَهودُ حارَت وَالمَجوسُ مُضَلَّلَه
اِثنــــــانِ أَهـــلُ الأَرضِ ذو عَقلٍ بِلا ** ديــنٍ وَآخَـــرُ دَيِّــنٌ لا عَقـــلَ لَهُ
[/poem]

الفكرة في النثر الفني (بين معترضتين).. المنحى الفكري في النثر أقوى منه في الشعر، لأن النثر طليق من القيود التي تكبّل اللفظة وتتحكم بالفكرة. وقد قال طه حسين: النثر لغة العقل. ويمكن أن نذكر على سبيل المثال:
قضايا المجتمع: العدالة الاجتماعية- الحسن البصري. والتعاون الاجتماعي: إخوان الصفا
شؤون الفكر: التعليل العلمي-أبو حيان التوحيدي. والبحث الأدبي-ابن خلدون وطه حسين (مثلاً الشعر الجاهلي موضوع أدبي صيغ في قالب علمي ومنهج فلسفي وتاريخي وتحليلي).
مباحث الفلسفة: النظر الفلسفي-الجاحظ. والانطلاق الغيبي-أبو العلاء المعري في رسالة الغفران.
مسائل السياسة: الفارابي والمعتزلة وابن خلدون وحسن البنا.[mfn]كمال اليازجي، معالم الفكر العربي، ص 128-136[/mfn]

شخصية المعري وعزة نفسه

لنرجع إلى أبي العلاء وفكره، وهذا يتطلب منا أن نفهم شخصيته، ليس من خلال سيرته فقط، إنما أيضاً من خلال وصفه لذاته، وعزته بنفسه، ورفضه مدح الحكام أيا كان، لأن الشاعر يُخلِد الحاكم، وليس العكس، فما أكثر ظلم الحكام الجهلاء الظالمين الذين مدحهم بعض الشعراء.
أجمل ما يمكننا فهم هذا المفكر المعري العربي هو قراءة قصيدته ألا في سبيـلِ المَجْــدِ ما أنا فاعـــل ودراستها بتمعن

[poem w=”80%”]
ألا في سبيلِ المَجْدِ ما أنا فاعل ** عَفــافٌ وإقْــدامٌ وحَزْمٌ ونائِل
أعندي وقد مارسْتُ كلَّ خَفِيّةٍ ** يُصَدّقُ واشٍ أو يُخَيّبُ سائِل
أقَلُّ صُدودي أنّني لكَ مُبْغِضٌ ** وأيْسَرُ هَجْري أنني عنكَ راحل
إذا هَبّتِ النكْباءُ بيْني وبينَكُمْ ** فأهْوَنُ شيْءٍ ما تَقولُ العَواذِل
تُـعَـدّ ذُنوبي عندَ قَـوْمٍ كثيرَةً ** ولا ذَنْبَ لي إلاّ العُلى والفواضِل
كأنّي إذا طُلْتُ الزمانَ وأهْلَهُ ** رَجَعْتُ وعِنْدي للأنامِ طَوائل
وقد سارَ ذكْري في البلادِ فمَن لهمْ ** بإِخفاءِ شمسٍ ضَوْؤها مُتكامل
يُهِمّ الليالي بعضُ ما أنا مُضْمِرٌ ** ويُثْقِلُ رَضْوَى دونَ ما أنا حامِل
وإني وإن كنتُ الأخيرَ زمانُهُ ** لآتٍ بما لم تَسْتَطِعْهُ الأوائل
وأغدو ولو أنّ الصّباحَ صوارِمٌ ** وأسْرِي ولو أنّ الظّلامَ جَحافل
وإني جَوادٌ لم يُحَلّ لِجامُهُ ** ونِضْوٌ يَمانٍ أغْفَلتْهُ الصّياقل
وإنْ كان في لُبسِ الفتى شرَفٌ له ** فما السّيفُ إلاّ غِمْدُه والحمائل
ولي مَنطقٌ لم يرْضَ لي كُنْهَ مَنزلي ** على أنّني بين السّماكينِ نازِل
لَدى موْطِنٍ يَشتاقُه كلُّ سيّدٍ ** ويَقْصُرُ عن إدراكه المُتناوِل
ولما رأيتُ الجهلَ في الناسِ فاشياً ** تجاهلْتُ حتى ظُنَّ أنّيَ جاهل
فوا عَجَبا كم يدّعي الفضْل ناقصٌ ** ووا أسَفا كم يُظْهِرُ النّقصَ فاضل
وكيف تَنامُ الطيرُ في وُكُناتِها ** وقد نُصِبَتْ للفَرْقَدَيْنِ الحَبائل
يُنافسُ يوْمي فيّ أمسي تَشرّفاً ** وتَحسدُ أسْحاري عليّ الأصائل
وطال اعتِرافي بالزمانِ وصَرفِه ** فلَستُ أُبالي مًنْ تَغُولُ الغَوائل
فلو بانَ عَضْدي ما تأسّفَ مَنْكِبي ** ولو ماتَ زَنْدي ما بَكَتْه الأنامل
إذا وَصَفَ الطائيَّ بالبُخْلِ مادِرٌ ** وعَيّرَ قُسّاًً بالفَهاهةِ باقِل
وقال السُّهى للشمس أنْتِ خَفِيّةٌ ** وقال الدّجى يا صُبْحُ لونُكَ حائل
وطاوَلَتِ الأرضُ السّماءَ سَفاهَةً ** وفاخَرَتِ الشُّهْبُ الحَصَى والجَنادل
فيا موْتُ زُرْ إنّ الحياةَ ذَميمَةٌ ** ويا نَفْسُ جِدّي إنّ دهرَكِ هازِل
**
[/poem]

قارن البيت الأخير من القصيدة بقول الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام. إنها الدنيا التي قال عنها الإمام: “يا دنيا إليكِ عنّي، أبي تعَّرضْتِ، أم إليَّ تشوقتِ، لا حانَ حَينُكِِ، هيهاتَ غُرّي غيري، لا حاجةَ لي فيكِ، قد طلقتك ثلاثاً لا رجعة فيها، فعيشُكِ قصير، وخَطَرُكِ يسير، وأَمَلُكِ حقير، آه من قِلّةِ الزّادِ، وطولِ الطَريقِ، وبُعدِ السفرِ، وعظيمِ المورِدِ”.[mfn]علي بن أبي طالب، نهج البلاغة، جمعه الشريف الرضي من كلام أمير المؤمنين علي، شرحه وضبط نصوصه الإمام محمد عبده، قدّمه هاني الحاج، ج4، المكتبة التوفيقية، القاهرة (ب.ت)، ص 533.[/mfn]

في مديح طه حسين

ينبغي أن لا ننس ما قيل عنه. فهو مؤلف ألف وثمانمائة وخمسة أبحاث أدبية في قضايا المجتمع وشؤون الفكر، والأدب النقدي والنقد الأدبي، والإسلام، ومباحث الفلسفة والعلم والمعرفة والتاريخ باللغتين العربية والفرنسية.
هذا شاعرنا الجواهري يرحب بقدوم طه حسين عميد الأدب العربي ليترأس مهرجان الاحتفاء بأبي العلاء المعري في سوريا عام 1944، بقصيدة عنوانها ‘‘أحييك طه‘‘ جاء فيها:

[poem w=”90%”]
أُحَيّيكَ ” طه ” لا أُطيلُ بكَ السَّجْعا ** كفَى السَّجع فخراً محضُ إسمك إذ تدعي
أُحَيّيكَ فَذّاً في دِمشقَ وقبلَها ** ببغدادَ قد حيَّيتُ أفذاذَكم جَمْعا
شكرناكَ : أنَّا في ضيافة نابغٍ ** نُمتّعُ منه العينَ والقلبَ والسمعا
ذرفتُ – على أنْ لا يرانا بطرفه ** وإنْ حسنَّا بالقلب – من أسفٍ دمعا
وكنَّا على آدابك الغُرِّ قبلَها ** ضُيوفاً فما أبقيتَ في كرمٍ وُسْعا
نهضتَ بنا جيلاً وأبقيتَ بعدَنا ** لأبنائنا ما يَحمدَون به المسعى
أُنَبّيكَ أنَّ ”الرافدينِ” تطلَّعتْ ** ضِفافُهما واستَنْهضَ الشَّجرُ الزرعا
هلمَّ لشُطئانِ الفراتينِ واستمِع ** أهازيجهَا تستطرفِ المعجِزَ البَدعا
ونهوي السفين الحائرات كأنها ** سفينته اذا تشتكي الاين والضلعا
أجل قد خطفناها مخافة فرقة ** وخشية ازماع نضيق به ذرعا
أبا الفكر تستوحي من العقل فذّه ** وذا الأدبِ الغضِّ استثرتَ به الطبعا
ويا سحر موسى إنَّ في كل بقعة ** لما تجتلي من آيةِ حيّةً تسعى
لك الله محمولاً على كلّ خاطرٍ ** ومن كل قلبٍ رحْتَ تحتله ترعى
[/poem] وذاك نزار قباني، قال أنشد في قصيدة طويلة من ستين بيتا بعنوان ‘‘حوار ثوري مع طه حسين‘‘، ألقاها في الذكرى المئوية لميلاد طه حسين أقتبس منها الأبيات التالية: 

[poem w=”70%”]
ضوءُ عينيكَ أم هما نجمتــــــانِ ** كلهــــم لا يَرى… وأنتَ ترانــي
لست أدري من أين أبدأُ بَوحي ** شَجَرُ الدمع شاخ في أجفانـي
[/poem]

إلى أن قال:

[poem]
آه يا سِّيدي الذي جعلَ الليلَ ** نهاراً .. والأرض كالمهرجــــان
إرمِ نظارتيــك ! ما أنت أعمى **  إنمــــا نحن جــوقة العميــان
أيها الأزهري يا ســارق النـار ** يا كاســراً حـــدودَ الثوانــــي
عد إلينا فإن عصـــرك عصـــر ** ذهبي ونحن في عصـر ثانـي
[/poem]

هذا هو عميد الأدب العربي الذي لُقِب بفولتير العرب وأحب النقاد إليَّ، وهو واحد من أكثر الأدباء المعاصرين ثقافة، وأبلغهم منهجية. أخذ حيزاً كبيراً إلى جانب عدد كبير من المفكرين العرب والغربيين في أبحاثي الأكاديمية الأدبية والفكرية في السويد وبريطانيا. ولا أزال تلميذاً في مدرسة الفكر والأدب والنقد، أحتاج لكل إضافة وجديد ونقد منهجي معلل من كل كاتب وناقد مبدع أتعلم منه.
وهذا هو معري القرن العشرين، كان مؤمناً فاتهموه بالكفر لأنه انتقد بجرأة ومنهجية. أيقظ العقل العربي من كسله، فتعرض كفيلسوف الشعراء لكثير من المصائب والمشاكل والآلام، واتخذا أسلوب العبث منهجا لمقارعة الذين استسلموا للبديهيات دون تحليل ونقد وبحث منهجي. من هنا دخلا معركة الأدب والحياة وانتصرا على الجهل ورفعا راية الأدب والفكر بجرأة وعزة نفس وإباء.
كيف كان وكيف يكون؟ هذا ما أشرحه في القسم الثاني من هذا اللقاء.

القسم الثاني

تأثير المعري في منهج طه حسين النقدي

مهداة لزميلي العلائي سلام كاظم فرج

ملاحظة تمهيدية: 

أرجو أن يقرأ القارئ هوامش الأرقام التي تضم شرح بعض الموضوعات المتعلقة بأساسيات المادة التي نحن بصدد دراستها، كما تضم مختصر بعض الكتب التي تفسر التوجه الأدبي والفكري، ولا سيما أسلوب العبث أحياناً والسخرية أحياناً أخرى في النقد لكل من المعري وطه حسين.
يظهر من دراسة طه حسين لأبي ‬العلاء المعري ‬أنه كان في ‬سجنه خمسين عاماً‬، ‬وكان مضطرباً لا ‬يعرف الاستقرار‬، ‬وكان مؤمناً بالعقل، ‬يشك ولا ‬يطمئن إلى النتائج التي ‬توصل إليها لأنه ساخط لا يعرف الرضى والقناعة‬.[mfn]طه حسين‬، ‬مع أبي ‬العلاء في ‬سجنه‬، ‬مطبعة المعارف ومكتبتها‬، ‬القاهرة 1939‬، ‬ص 44 و 46-47[/mfn] ‬فقد استوعب ‬طه حسين ‬شخصية المعري ‬وبيئته، ‬وحياته، ‬وأدبه، ‬وتشاؤمه في رسالته الأكاديمية (ذكرى أبي ‬العلاء)، ‬وهي ‬رسالته الأولى للدكتوراه، ‬قدمها إلى الجامعة المصرية عام 1914. كما عرض شعر المعري ‬في ‬اللزوميات، ‬وسَقْط الزند، ‬والدرعيات وكتاباته الفكرية‬ [mfn]طه حسين‬، ‬ذكرى أبي ‬العلاء، مطبعة الواعظ، القاهرة 1915، ص 249- 250 و299.[/mfn] معتبراً إياه أحب شـخصية أدبية فكرية إليه. ‬وفي ‬هذا ‬يقول: “ولم ‬يذكر الفتى كم مرة قرأ شعر أبي ‬العلاء ونثره مع صديقه ‬ذاك. ‬ولكنه عرف أنه ‬قرأه مرات كثيرة، ‬وتأثر به أعمق الأثر، ‬وآمن به أشد الإيمان، ‬واستيقن أن حياة أبي ‬العلاء تلك هي ‬الحياة التي ‬يجب عليه أن ‬يحياها ما استطاع إلى ذلك سبيلا ‘‘.[mfn]طه حسين : ‬الأيام، ‬ج 3، ط2، دار المعارف، القاهرة 1973، ‬ص 56.[/mfn]‬

تأثر طه حسين بالمعري:

ويعترف ‬طه حسين ‬أن أبا العلاء المعري ‬ملأ نفسه ضيقاً بالحياة وبغضاً لها، ‬وهو في ‬هذا ‬يشعر بتشاؤم أبي ‬العلاء[mfn]طه حسين : ‬الأيام، ‬ج 3، ط2، دار المعارف، القاهرة 1973، ‬ص 85[/mfn]، ‬لأن ذكرى أبي ‬العلاء لم تفارقه لحظة من لحظات اليقظة، ‬إلاّ ‬أن ‬يشـغل عـنها بالاستماع إلى الـدرس أو إلى القراءة‘‘ [mfn]طه حسين : ‬الأيام، ‬ج 3، ط2، دار المعارف، القاهرة 1973، ‬ص 104[/mfn]. ‬باختصار كان المعري ‬مثله الأعلى.[mfn]طه حسين : ‬الأيام، ‬ج 3، ط2، دار المعارف، القاهرة 1973، ‬ص 109[/mfn]‬

في شكه

من الواضح أن طه حسين تأثر بأبي ‬العلاء المعري ‬وشكه وتشاؤمه في ‬شعره، ‬حيث ‬يقول عن شك أبي ‬العلاء: “‬كان ‬ينكر الناس وينكر الأشياء. ‬وكان كثيراً ما ‬ينكر نفسه ويشك في ‬وجوده”.[mfn]طه حسين : ‬الأيام، ‬ج 3، ط2، دار المعارف، القاهرة 1973، ‬ص 114[/mfn] وحين ‬يُبدي ‬طه حسين مدى إعجاب الناس بأبي ‬العلاء، ‬يشعر أن ذلك الاعجاب ‬يشمله،[mfn]يبدو أن مرد إحساس طه حسين بذلك الشعور هو رسالة وصلته من مَي ‬زيادة، فقد بدأت رسالتها بكلمة ‘‘‬يا أبا العلاء‘‘. ‬ينظر: ‬رسالة مي ‬زيادة إلى طـه ‬حسين في 28 ‬نوفمبر/ ‬تشرين الثاني 1934. ‬وكتبت زوجته الفرنسية: “كثيراً ما قيل، ‬ونردد ذلك، ‬إن طه كان أبا علاء آخر!”.‬ سوزان طه حسين، معك، ترجمة بدر الدين عرودكي، ط 1، دار المعارف، القاهرة 1979، ص 293.[/mfn] ‬فيقول: “‬العالم العربي ‬كله ‬يذكر أبا العلاء في ‬هذه الأيام، ‬ذكرى محب له، ‬معجب به. ‬والعالم الغربي ‬يشارك في ‬هذا الذكر الذي ‬يملؤه الحب والإعجاب. ‬وقد كان أبو العلاء سيئ الظن بنفسه، ‬سيئ الظن برأيه، ‬وهذه آية التواضع ومعرفة الإنسان قَدرَ ‬نفسه‘‘.[mfn]طه حسين: ‬صوت أبي ‬العلاء، ‬سلسلة اقرأ، ‬رقم23، ‬مطبعة المعارف ومكتبتها، ‬القاهرة 1944، ‬ص5[/mfn]

‬في تشاؤمه

كانت تراود طه حسين أوقات ‬يشعر بالتشاؤم كالمعري ‬في ‬الأدب والفلسفة ‘‘ ‬تبرُّماً بحياته وإغراقاً في ‬التشاؤم المظلم الذي ‬لا قرار ‬له. ‬ورأى نفسه ذات ‬يوم وقد انتهى به التشاؤم والضيق إلى حيث ندم على ما فرَّط في ‬جنب الأزهر وشيوخه‘‘[mfn]طه حسين: ‬الأيام، ‬ج3، ‬ص 71. ‬قارن ما كتبه طه حسين عن التشاؤم مع ما كتبته زوجه سوزان في ‬كتابها (‬معك): “غير أنه لم تكن ‬لدى طه تلك النزعة التشاؤمية السوداء المطلقة التي ‬لامخرج منها”. سوزان طه حسين، معك، ترجمة بدر الدين عرودكي، ط 1، دار المعارف، القاهرة 1979، ص 293. ‬[/mfn]. ‬وكان قد قرأ عن أبي ‬العلاء أن العمى عورة، ‬كما كان ‬يتحرج في ‬كثير من الأشياء أمام المبصرين. ‬وفهم هذا كما فهمه المعري ‬نفسه،[mfn]سوزان طه حسين، معك، ترجمة بدر الدين عرودكي، ط1، دار المعارف، القاهرة 1979، ص 96[/mfn] ‬ففي ‬ذلك ‬يتحدث عن نفسه من خلال المعري، ‬ويعترف مدى تأثير تشاؤم المعري ‬عليه إلى درجة أنه كان سبباً لتكرار الكلمات في ‬دراساته، ‬كما كان عند المعري. ‬وأن آلام المعري ‬تثير في ‬نفسه حبا.[mfn]طه حسين : ‬مع أبي ‬العلاء في ‬سجنه، ‬ص 113-114 ‬[/mfn] لكن تشاؤم المعري كان ‬فلسفة شاملة للحياة والإنسان، تكون الغلبة فيها للخير على الشر، ‬لذلك ابتعد عن الناس ولم ‬يتزوج، ‬بينما كان تشاؤم طه حسين مؤقتاً وجزئياً ‬نجَم عن ظروف العمى أو الهجوم الذي ‬شن ضده، وفصلِه من وظيفته، ‬غير أن ذلك لم ‬يمنعه من الزواج والتمتع بالحياة.

في تمرده وسخريته وعبثيته

يتجلى من خلال البحث أن فهم نفسية المعري ‬وفلسفته وأدبه ‬يوضح للمرء فهم نفسية وفكر طه حسين أيضا بشكل من الأشكال. ‬فاستياء طه حسين من الواقع، ‬وتمرده ‬وسخريته بعقول الناس مصدره إلى حد كبير المعري . ‬فهذه الخصال واضحة في ‬رسالة الغفران ‬وثورة المعري ‬على الواقع وعلى حقائق الإيمان.[mfn]‬تقع الرسالة في (202) ‬صفحة، ‬كتبها المعري ‬إلى ابن القارح جواباً على رسالة تلقاها منه. هي قصة خيالية ‬يشرح المعري فيها ‬بسخرية ما ‬يتعرض له الناس ‬يوم القيامة، وما ‬يلاقونه من مصاعب. ‬‬يشرح أبو ‬العلاء رغبة إبن القارح بدخول الجنة، ‬لأن معه صك التوبة وهو ‬ينشد الشعر مع جماعة من الشعراء والعلماء. ‬ويمدح خازن الجنة، ‬لكنه لا ‬يفهم، و‬يأمره بالذهاب إلى النبي ‬محمد عليه الصلاة والسلام‬ ‬ليشفع له. ‬وبعد مشقة كبيرة ‬يدخل الجنة، ‬ويلتقي بالأدباء والشعراء ويسألهم كيف ‬غفر اللّه لهم حتى دخلوا الجنة.‬[/mfn] تسيطر روح العبث ‬والسخرية في ‬وصف المعري ‬لأحوال الناس في ‬الجنة والجحيم. ‬والعبث أكبر مظاهر حساسية العقول. ‬أما ‬يقينه فكان ‬يقيناً حسيّاً من أجل الخلاص من ألمه،[mfn]محمد مندور، ‬في ‬الميزان الجديد، ‬دار نهضة مصر للطبع، ‬القاهرة 1983، ص 143-44.[/mfn] ‬وفي ‬كل هذا ‬يمكن فهم العذاب الذي ‬لقيه طه حسين حين ‬يصف حاله في ‬كتابه (الأيام)[mfn] يقول طه حسين: “‬كان صاحبنا الفتى قد أنفق أربعة أعوام في ‬الأزهر، ‬وكان ‬يعدها أربعين عاماً، ‬لأنها قد طالت عليه من جميع أقطاره.‬ ‬كأنها الليل المظلم، ‬قد تراكمت فيه السـحب القاتمة الثقال، ‬فلم تدَعْ ‬للنور إليه منفذاً”. ‬طه حسين: ‬الأيام، ‬ج3، ص2 [/mfn] وكتابه (أديب).[mfn] ‬يقول طه حسين: “‬لم ‬يبق لي ‬أمل ولا شيء ‬يشبه الأمل أيها الصديق، ‬فقد أجمع الحلفاء أمرهم وأمضوا عزيمتهم لايقبلون في ‬ذلك مراجعة ولا شفاعة، ‬بل هم قطعوا على الشفاعة كل طريق، ‬فأفسدوا عليَّ ‬حتى أساتذة السوربون الذين كانوا ‬يحبونني ‬ويؤثرونني ‬أشـد الإيثار”. ‬طه حسين: ‬أديب، دار المعارف، القاهرة 1952، ‬ص 178.
ملاحظة: ترفض سوزان طه حسين أن ‬يكون كتاب (أديب) سيرة ذاتية وتقول: “‬وقيل أيضاً ‬إن ‬أوديب هي ‬سيرة ذاتية. ‬وهذا ‬غير صحيح إطلاقاً. ‬فقد أراد طه في ‬هذا الكتاب أن ‬يتحدث عن مصري ‬لم ‬يسبق له أن التقى به فيما أعتقد قبل أن ‬يصبح كل منهما مبعوثاً للجامعة المصرية”. ‬سوزان طه حسين، معك، ص294.[/mfn] كما ‬يصف نفسه كأحد المعذبين في ‬كتابه ‬(المعذبون في ‬الأرض)
‬،[mfn]يقول طه حسين: “صدقني ‬أن الخير كل الخير للرجل الحازم الأديب، ‬أن ‬يفر بقلبه وعقله وضميره من هذا الجيل. ‬فإن أعجزه الفرار إلى بلاد أخرى، ‬فلا أقل من أن ‬يفر إلى زمان آخر من أزمنـة التاريخ”. ‬طه حسين، ‬المعذبون في ‬الأرض، ‬ط9‬، ‬دار المعارف، ‬القاهرة 1992، ص 182.[/mfn] ‬حين حكمت المحكمة المصرية عليه بفصله من وظيفته، ‬وتَنَكَّرَ ‬له أصدقائه، ‬فعزل نفسه عن المجتمع كالمعري. ‬كما أن كتابه (جنة الشوك) ‬تعبير عن السخرية والنقد والهجاء عن طريق الحوار والأسئلة والأجوبة بين الطالب وأستاذه.[mfn]يقول طه حسين: “‬قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ‬ألم ترَ ‬إلى فلان وُلدَ ‬حراً ‬وشبّ ‬حراً، ‬وشاخ حراً، ‬فلما دنا من الهرم آثرَ ‬الرقَّ ‬فيما بقي ‬من الأيام على الحرية التي ‬صحبها في ‬أكثر العمر؟ ‬قال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: أضعفته السن، ‬فلم ‬يستطع أن ‬يحتمل ‬الشيخوخةَ ‬والحرية معاً، ‬وأنتَ ‬تعلم أن الحرية تحمل الأحرار أعباءً ‬ثقالاً”. ‬طه حسين، ‬جنة الشوك، ‬ط 11، ‬دار المعارف، ‬القاهرة 1968، ‬ص32.‬ ويقول: ‘‘‬قال الطالب الفتى لأستاذه الشيخ: ‬متى ترضى عن قومك! ‬قال ‬الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى: ‬حين أراهم ‬يسخطون ‬على أنفسهم”. طه حسين، ‬المعذبون في ‬الأرض، ‬ط9‬، ‬دار المعارف، ‬القاهرة 1992، ص133.‬[/mfn] وطه حسين في ‬كل ذلك ‬يشرح أنه سلك طريق أبي ‬العلاء المعري ‬بسخريته من الناس ونقده لهم.

أوجه التشابه الرئيسية

الحديث عن أبي ‬العلاء المعري ‬وطه حسين طويل ومتشابك نظراً للموضوعات الكثيرة التي ‬تطرق إليها كل واحد منهما، ‬على الرغم من اختلاف ‬البيئة والزمان، ‬ودرجة التطور الفكري. بناء على ما تقدم ‬يمكن إيجاز أوجه التشابه بينهما في ‬نقاط أساسية وهي:‬

ـ أُصيب أبو العلاء المعري ‬بالجدري ‬ففقد بصره وهو في ‬الرابعة من عمره. ‬وأُصيب طه حسين بالرمَد في ‬عينيه ففقد بصره وهو في ‬الخامسة من عمره تقريباً.[mfn]كامل سعفان : ‬في ‬صحبة أبي ‬العلاء بين التمرد والانتماء، ‬دار الأمين، ‬القاهرة 1993، ‬ص7. [/mfn] ـ كتاب طه حسين عن المعري ‬بعنوان (‬ذكرى أبي ‬العلاء) ‬والطبعة الجديدة لنفس الكتاب (‬تجديد ذكرى أبي ‬العلاء) هو حديث طه حسين عن نفسه في ‬ثوب المعري ‬على نحو ما. ‬فهو ‬يصف المعري ‬بشدة الذكاء ودقة الملاحظة وحبه للعزلة. ‬وهي ‬صفات تنطبق على طه حسين، ‬لكن مع ذلك فإن العزلة لم تكن ميسورة لهما في ‬كل الأحوال رغم حبهما لها.[mfn] طه حسين : ‬تجديد ذكرى أبي ‬العلاء، ‬ص 163-164[/mfn]‬ و‬يصف المعري ‬العزلة في ‬قصيدته (الخير في ‬الانفراد) [mfn]أبو العلاء المعري : ‬لزوم ما لايلزم، ‬ج 3، ‬ط 2‬، ‬شرح نديم عدي، ‬دار طلاس للدراسات، ‬دمشق 1988 ، ‬ص 1614- 1616[/mfn]

[poem]
أَراكَ إِذا اِنفَرَدتَ كُفيتَ شَـــرّا ** مِنَ الخَـــلِّ المُعاشِـــرِ وَالمِعَنِّ
جَليسي ‬ما هَوَيتُ ‬لكَ ‬اقتراباً ** وَصُنْتُكَ ‬عن مُعاشَرَتي، ‬فَصُنّي
[/poem]

ـ اندفع المعري ‬إلى طلب المعرفة، ‬فسافر إلى حلب وأنطاكية واللاذقية وبغداد رغم كونه منطوياً.[mfn]بنت الشاطئ ‬(عائشة عبد الرحمن)، ‬أبو العلاء المعري، ‬في: سلسلة أعلام العرب، ‬رقم380 (‬د. ‬م)، 1965، ‬ص41-42[/mfn] وسافر طه حسين إلى الأزهر والجامعة المصرية في ‬القاهرة، ‬وإلى مونبلييه وباريس والبلدان العربية والأوروبية الأخرى طلباً للمعرفة والعلم.

ـ كان المعري ‬معجباً بديوان أبي ‬الطيب المتنبي ‬وسماه (‬معجز أحمد). ‬وكان سبب إعجابه بشعر المتنبي شعره الجيد، ‬أو ثقة المتنبي ‬بنفسه‬، ‬أو الشك الذي ‬كان ‬يراود المتنبي ‬كالمعري.[mfn] كامل سعفان، ‬في ‬صحبة أبي ‬العلاء بين التمرد والانتماء، ‬دار الأمين، ‬القاهرة 1993، ‬ص11‬؛ وينظر أيضاً:‬ طه حسين‬، ‬مع المتنبي‬، ‬ج1‬، ‬لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة 1936، ص 184.[/mfn] ‬وهو نفس الشك الذي ‬كان ‬يراود طه حسين. ‬ويصف المعري ‬الشك الذي ‬يعانيه في ‬ديوانه الشعري (‬لزوم ما لا ‬يلزم) ‬فيقول: [mfn]المعري: ‬لزوم ما لايلزم، ‬ج1، ‬ص 264[/mfn]‬ 

[poem]
وَالنَفسُ شَكَّت في يَقينِ الأَمرِ وَالــ كَفّانِ أَن رَمتا قَنيصاً شَكَّتا
[/poem]

أما عن طه حسين فأقل ما ‬يمكن قوله هو نظريته النقدية في ‬الشعر الجاهلي ‬التي ‬بُنيت على الشك. ‬كان طه حسين معجباً بقوة شعر المتنبي ‬أيضاً رغم أنه لم ‬يكن ‬يحب شخصه لاختلافات في ‬التوجهات النفسية، ‬ولم تكن آلام المتنبي ‬تثير في ‬نفسه إلا الغيظ ‬والازدراء.[mfn]طه حسين، ‬مع أبي ‬العلاء في ‬سجنه، ص62.[/mfn] ‬ وقد عدَّ ‬طه حسين شعر المتنبي ‬في ‬مدح سيف الدولة من أجمل شعره، ‬بل اعتبره ‬”من أجمل الشعر العربي ‬كله وأروعه وأحقه بالبقاء”.[mfn]طه حسين : ‬مع المتنبي، ‬ج2، ‬لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة 1936 ، ص311[/mfn]

ـ شَكَّ ‬المعري ‬ومن بعده طه حسين بالشعر الجاهلي، ‬وذكر المعري ‬كيف انتحل ذلك الشعر.‬ فقد ذكر بيتاً شعرياً في ‬كتابه ‬(رسالة الغفران)، ‬أخذه من ديوان الشاعر الجاهلي ‬عبيد بن الأبرص وهو :‬

[poem]
هي ‬الخَمرُ ‬تُكنى الطِلاءُ ‬كما ** الذئبُ ‬يُكنى أبا جِعْده
[/poem]

واعتبر المعري ‬أن ذلك البيت قد اُنتُحِل باسم الشاعر لأن البيت قد قيل في ‬الإسلام بعدما حُرمت الخمر.[mfn]رسالة الغفران، ‬تحقيق وشرح عائشة عبد الرحمن ( ‬بنت الشاطئ)، ‬ط 9 ، ‬دار المعارف، ‬القاهرة 1993، ‬ص 513 [/mfn] ملاحظة: راجعتُ شخصياً ديوان عبيد بن الأبرص كما نقله المستشرق سير جيمس ليال، ‬فوجدتُ ‬بأنه قد روي ‬البيت بالشكل التالي (بدون اسم الإشارة):‬ ‬ الخَمرُ ‬تُكنى الطِلاءُ ‬كما الذئبُ ‬يُكنى أبا جِعْده.[mfn]‬ See: Sir Charles Lyall: The Diwan of ‘Ab¬d ibn al-‘Abras of Asad and ‘Amir ibn at-Tufail, of ‘Amir ibn- Sa‘sah, edited for the first time, from the MS. In the British Museum and supplied with a translation and notes, by Sir Chrles Lyall (London, Luzac and Co., 1913), p. 3.[/mfn]
ـ كل من طه حسين والمعري ‬اُتُهما بالكفر بسبب كتاباتهما. ‬فقد اتُهم المعري ‬بالكفر بسبب كتابه (‬رسالة الغفران). ‬ واتُهم طه حسين بالكفر بسبب كتابه (في ‬الشعر الجاهلي).[mfn]كامل سعفان، ‬في ‬صحبة أبي ‬العلاء بين التمرد والانتماء، ‬دار الأمين، ‬القاهرة 1993، ص26‬؛ ‬وينظر: أيضاً ‬محمد عوض، ‬أفكار ضد الرصاص، ‬ط4، دار الشروق، بيروت 1981، ص 155.[/mfn] ‬من الجدير بالذكر أن طه حسين ‬يعتبر المعري ‬مؤمناً أشد الإيمان بوجود اللّه وهذا الإيمان لم ‬يمنعه أن ‬يشك في ‬كثير من المسائل. ‬ودفاع طه حسين عن المعري ‬هو دفاعه عن نفسه، ‬فهو ‬يتحدث عن إيمانه أيضاً باللّه تعالى وبوحدانيته.‬ وقد فهم حياة المعري ‬لأنه كما ‬يقول: ‬رأى نفسه فيها.[mfn]طه حسين : ‬الأيام، ‬ج1، ط59، دار المعارف، القاهرة 1981، ‬ص 21.[/mfn]‬
ـ فكَّرَ ‬المعري ‬بالانتحار، ‬وكاد أن ‬ينتحر، ‬حيث قال: “‬لو أمنتُ ‬التبعة لجاز أن أمسك عن الطعام والشراب، ‬حتى أخلص من ضنك الحياة”.[mfn]المعري : ‬الفصول والغايات، ‬تحقيق حسن زناتي، ‬الهيئة المصرية العامة للكتاب، ‬القاهرة 1977، ‬ص 429[/mfn] ‬وفكر طه حسين بالانتحار، ‬بل حاول أن ‬ينتحر حين ضرب قَفاه بالسكين وصاح ‬‬فلحقته أمه.[mfn]طه حسين : ‬الأيام ج1، ‬ص 59[/mfn]‬
ـ كان المعري ‬معتزاً بنفسه‬، ‬كقوله:‬  إذا ما قلتُ ‬نُظماً ‬أو نَظيماً ‬تَتَبَّعَ ‬سارقو الألفاظ ‬لفظي.[mfn]المعري : ‬لزوم ما لا ‬يلزم، ‬ج2، ‬ص1010[/mfn] وكان طه حسين معتزاً بنفسه أيضاً‬، ‬فخوراً بذاته‬، ‬واثقاً من علمه حين ‬يصف حاله في ‬كتابه (‬الأيام)‬، ‬وهو ‬ينقد شيوخ الأزهر ويستهتر بعلمهم.[mfn]طه حسين، ‬الأيام ج3، ‬ص 20[/mfn]‬
ـ كان المعري ‬على اتصال بالخاصة من علماء وأدباء.[mfn]كامل سعفان، ‬في ‬صحبة أبي ‬العلاء بين التمرد والانتماء، ‬دار الأمين، ‬القاهرة 1993، ‬ص 55[/mfn] ‬وكان طه حسين كذلك، ‬على سبيل المثال، اتصاله بأحمد لطفي ‬السيد، ‬وعبد العزيز جاويش وتشجيعهما ودعمهما له إلى أن أصبح كاتباً.[mfn]طه حسين، ‬الأيام ج3، ص22[/mfn]‬
ـ كان المعري ‬يعطي ‬أحكامه المطلقة، ‬حيث انتزع التقوى والورع من الناس . ‬وكان طه حسين معروفاً في ‬إعطاء أحكام مطلقة في ‬إنكاره أغلبية ‬الشعر الجاهلي[mfn]كامل سعفان،‬في ‬صحبة أبي ‬العلاء بين التمرد والانتماء، ‬دار الأمين، ‬القاهرة 1993، ‬ص192[/mfn] ثم تراجع عن بعض فقراته في الطبعة الثانية من كتابه بعنوان (في الأدب العربي) الصادر عام 1927.‬
ـ كان المعري ‬متمكناً من اللغة العربية والأدب العربي، ‬وأخبار العرب وخير دليل على ذلك دواوينه الشعرية، ولاسيما ‬(لزوم ما لا ‬يلزم)، ‬وكتابه (‬رسالة الغفران).[mfn]كامل سعفان،‬ في ‬صحبة أبي ‬العلاء بين التمرد والانتماء، ‬دار الأمين، ‬القاهرة 1993، ‬ص36[/mfn] وكان طــه حسين كذلك في ‬أعماله من كتب ومقالات ومقدمات ومترجمات ومنوعات ‬كُتبت بلغة سهلة وجميلة ومتينة رغم تكراره لكثير من الكلمات. وأتذكر حادثة طريفة كان شخصي البسيط طرفاً فيها، حيث قدمتً بحثاً أدبياً أكاديمياً لأستاذ متخصص في النقد الأدبي من جامعة كمبردج. وتضمن البحث من بين ما تضمن اقتباساً مباشراً في بضعة أسطر من كتاب (الأيام) لطه حسين. فأخبرني الأستاذ: “يجب أن تراجع النص الأصلي للاقتباس، لأنك أخطأتَ في نقل كلمة من النص، فصححه لأنه لا يعقل أن يخطىء طه حسين مثل هذا الخطأ في اللغة‘‘.

الخاتمة

قالت زوج طه حسين الفرنسية سوزان ‬بهذا الصدد: “‬إن طـه حسين كان أبا علاء آخر، ‬إنسانان ‬غارقان في ‬الليل نفسه. ‬إنسانان ‬يرفضان قدراً ظالماً. ‬إنسانان ‬يملكان رضوخاً خارقاً، ‬وموهبة في ‬التعبير استثنائية ‬وكبرياء شامخة، ‬وجرأة فكر. ‬كلاهما ‬يعرفان نفسيهما ويريدان أن ‬يكونا حُرَّين. ‬وكلاهما كانا ‬يُحاكم العالم، ‬دون أي ‬وهم.[mfn]سوزان طه حسين، معك، ص 293.[/mfn]

عن الحوار المتمدن