المعرّي .. سراجُ العقلِ الفاضلْ

براء العويس

طبيب وشاعر سوري

إنَّ الحَربَ عَطَبٌ في السّلُوكِ البّشّريّ ، ونقيضُ العقل والحكمة ومحضُ الهَوَى ، وتربةٌ للظُّلمِ والجريمةِ. لقد بَلَغت دراميّةُ الحربِ السورية حداً جاوزَ المَعقول. حربٌ عمياءٌ، وهويّات متناحرة بذات الملامحِ والجنونْ. الهويةُ إذاً هي مِعوَلُ الحربِ، و مَحلّ النزاعِ ورَسَائلُ المتحاربينَ إلى بعضهمْ، هي النّصلُ القاتلُ الذي هوى بالأفكارِ والفضائلِ إلى عدمٍ مظلم.

من النبيل الانشغالُ بالعدلِ، والأسمى تَحَرّيهِ كهُويّة فذّة متسامية على الهوى. فمن كرهَ الجهدَ وتَبَرّمَ بالمَشَقةِ وآثَرَ الراحةَ الكُبرى فسبيلهُ أن يؤثِرَ الموتَ ؛ لأنه يَحُطُّ عَنْه كُلَّ ثِقَلٍ ويُلقي عنه كُلّ عِبءٍ* بما فيه وِزْرُ القتل والجريمة. لقد ذهبت هذه الحربُ بالعقلِ ورُموزِهِ، وطغتْ بجرائمَ لا تَستَهدفُ البشرَ والعمرانَ وحسبْ ؛ بل جَرّفَتْ معاولُها اللئيمةُ مَشارقَ الضوءِ وولغتْ غِيلانُها في مشاربِ الفاضلِ الجميل.

لا شكَّ أنّ الفكرَ أساسٌ الهوية في تاريخ الدول، فضلاً عن دور حيويّ لهُ في استمرار القيمة الأسمى ، على السواء فإنّ الفَنَّ خَلّدَ مجتمعاتٍ حديثة بهويّةٍ أصيلة.

لَمّا كان المعرّيُّ مفكراً سورياً تخاطبُ أفكارُه الإنسانَ المعاصرَ في كل مكان، كانَ السوريّ أولى به. ولأنّ سيرتَه مضيئةٌ وعابرةٌ  للأزمنة، كان بِذاتِهِ وموضوعهِ المُعْبّرَ الأمثلَ عن مَنْحَى التّنْويرِ في مَراحلَ نفِدَ فيها العقل الضمير كالمرحلة التي نعايش الآن.

ولأنّ بصيرتَهُ تجلّت في الثورة على واقعٍ حضاريّ مُعَقّدٍ نبتَ فكرهُ فيه وتَمردَ بالحُجّةِ ضِدّ يقينيّته العاجزةِ ؛ كان لهُ أن يكونَ إماماً للباحثِ عن العادل الرامي إلى النبيل. لقد كشفَ تحطيمُ تمثالهِ المتواضع في مسقط رأسه بيِد قوى الثورة المضادة استكمالاً لسلوك نظام الطغيان الأسدي؛ لهذا كلّه حَمَلَنا الحافزُ إلى إنجاز تمثالٍ للمعريّ ذي قيمة فنية نفيسةٍ لائِقة بأولوية العقلِ والسّؤال والبِرّ بالإنسان.

إننا إذْ نُريدُ أن نَحتفي بسوريّةِ المعريِّ ونؤكّدَ على غِنَى الهُويّة الثقافيةِ السورية و نعززَ قُدْرَتَنا كسوريين على مقاومة الحرب بالفِكرْ ، كان لا بدّ لَنَا من رَدّ الاعتبار لرمزية قامةٍ فكريةٍ فلسفية تعرضت للانتهاك في موطنها بمعول الحرب الذّميمة.