المعرّي: العقل الإمام … لا إمام سوى العقل

بدر الدين عرودكي

كاتب ومترجم سوري

لم يكن أبو العلاء المعري، وهو يقول هذه الكلمات، يلخص حصيلة ثلاثة قرون من جهد فكري لم تعرفه الثقافة العربية من قبل في اللغة والكلام والفلسفة وفي التواصل مع تراث الأمم الأخرى ولاسيما التراث اليوناني، عبر ترجمات ثمراته الكبرى في الفلسفة والمنطق والرياضيات والطب والأخلاق فحسب، بل كان يجسِّد سلوكًا وفعلًا وإبداعًا تلك الفترة التي، على أنها كانت عصر بداية انحطاط سياسي كارثي تاريخيًا، عرفت في الوقت نفسه جانبًا مضيئًا تمثل في ازدهار حياة عقلية بين بغداد وقرطبة لا تزال آثارها الفكرية والعلمية تشهد عليها، وفي المقدمة منها أحد أهمِّ ممثليها: رهين المحبسيْن.

فالمعري الذي فقد بصره في الرابعة من عمره لم يكف، منذ بلوغه سنَّ الشباب، عن التجوال في حواضر الثقافة في عصره بدءأ بحلب واللاذقية وطرابلس وأنطاكية التي كانت تضم مكتبة عربية كبيرة أتى على معظم ما فيها قراءة وحفظًا، وانتهاء ببغداد التي كانت عاصمة الثقافة في العالم يومئذ، فنهل فيها ما تيسر له من عيون الفلسفة والكلام والفقه والأدب والشعر، قبل أن يعود إلى المعرّة بسبب مرض والدته ويقرر، وهو في منتصف العقد الرابع من عمره،  أن يعيش بقية حياته، التي بلغت قرابة خمسين عامًا، حرًّا وكما وصف نفسه، رهين محبسيْه، فقدان النظر ولزوم البيت.

لم يسع، وهو الفيلسوف والمفكر والشاعر،  بخلاف معظم معاصريه من الشعراء أو الأدباء أو المتكلمين أو الفلاسفة، إلى التقرب من أولي الأمر أيًّا كانت منزلتهم، بل بقي، في حلّه وترحاله، مستقلًّا يقول وينقد المجتمع الذي يعيش فيه في مجالات السياسة والدين والثقافة بلا محاباة، نثرًا أو شعرًا، متخذًا من الشك أداة ومن العقل دليلًا.

ترك وراءه مبدعات ضاع معظمها، لكن ما وصلنا منها وهو نذر يسير يكفي لقول مثقف استثنائيّ في مواهبه وقدراته الفكرية الخارقة، كما تجلت في رسالة الغفران وفي ديوانيه سقط الزند واللزوميات.

على أن الشك لم يكن لدى أبي العلاء أداة خلال موقف طارئ، بل منهجًا للوصول إلى الحقيقة:

 

ولاسيما في غياب اليقين:

إذ لم يكن قادرًا، في مجاليْ الحياة العملية والتأملات النظرية، على تجاهل ما تفرضه ملاحظاته ودراساته من تساؤلات:

لذلك، كان لا بد والحالة هذه من السخرية التي تقول الشك أو يقين اللايقين بوصفها أداةً وعنصرًا مقوّمًا وظَّفها في مُبدّعه الاستثنائي: رسالة الغفران. هذا، إلى جانب دليله و”إمامه” في التفكير: العقل، الذي كان عماده في الفهم وفي التأويل عمومًا وفي المواقف النظرية والفعلية خصوصًا، نتيجة معايشته ودراسته لمختلف الديانات السائدة والمعروفة في عصره، وتجلياتها في سلوك أسلافه ومعاصريه.

رمز الحداثة قبل عصر الحداثة!