المعري يضيء درب العدالة

فرحان مطر

صحفي سوري

أرى أن كل جهد يؤدي إلى السلام قادر على أن يكون بحد ذاته ثورة، وكل سلام مبني على العدالة يصبح ثورة، وكل عدالة تصل بالمجرم إلى المحاكمة هي حتماً ثورة.

لذا فليس غريباً على السوري، بعد أن جرّب كل شيء، على مدى عشرة أعوام مضت، وخسر كل هذه الأثمان، أن يعلن عن ثورته الجديدة، بأشكال مبتكرة، بعيداً عن الشعارات وتجاذبات السياسة العالمية، وارتهان وارتزاق بعض السوريين.

من هنا جاءت فكرة (جمعية ناجون من المعتقلات السورية) التي ترى أن كل سوري/ة دخل المعتقلات السورية بسبب تأييده للثورة وخرج حيّاً بالصدفة ولم يلين هو أحد الناجين/ الناجيات من الاعتقال، وكذلك كل سوري تفادى الاعتقال بشكل أو بآخر.  وعليه فإن المهمة الأولى هي أن تتوجه وتتضافر كل الجهود من أجل ألا يبقى المجرم طليقاً يوماً واحداً إضافياً لأن معنى ذلك هو استمرار القتل على مرأى ومسمع من العالم أجمع، وهو العاجز عن ردعه.

مشروع تمثال أبي العلاء المعري الشاعر والفيلسوف السوري (ابن مدينة معرة النعمان) الذي كان رائداً في إعلاء دور العقل وسباقاً في إبراز وتأكيد حرية الفكر في تراثه، وهو صاحب مقولة: لا إمام سوى العقل، التمثال الذي صممه وأنجزه الفنان والنحات السوري عاصم الباشا (المتجدد طاقة وإرادة في العطاء) هو بمثابة  باكورة الأعمال والخطوات الفعلية لناجون على طريق العدالة ومحاسبة المجرمين وليكون شاهدا ودليلاً مع الزمن على أن العدالة ما زالت غائبة في سوريا، ما دام أبو العلاء المعري خارج أرضه ومكانه الطبيعي سوريا، وما دام المجرم طليقاً يمارس إجرامه، لأن الغاية هي أن يوضع تمثال المعري في سوريا، وذلك غير ممكن ما دامت الأوضاع على ما هي عليه الآن.

تمثال المعري رسالة حضارية تنبئ عن تراث السوريين، وصورتهم الحقيقية الرافضة لواقع الموت والهجرة والدمار، رسالة تقول: إن السوريين الناجين من الموت والمنتشرين في كل أنحاء العالم بفعل غياب العدالة في وطنهم، واستمرار دوامة القتل والموت هناك، ما زالوا يفكرون بالحياة والثقافة والفن والإبداع وقادرين على أداء رسالتهم الحضارية ضمن المجتمعات البشرية التي يعيشون فيها بفعل الظروف القاهرة، وهذا التمثال تم إنجازه بمساهماتهم وحدها.

يجري التشاور مع الجهات الفرنسية ذات الصلة لوضعه في إحدى ساحات العاصمة الفرنسية باريس، والأبواب مشرعة لاستضافته في أية عاصمة أوروبية أخرى.

وفي العودة إلى أشكال المقاومة ضد الديكتاتورية فإن الثقافة والفن ما يزالان أحد أشكال هذه المقاومة السلمية المبدعة على طريق السلام الذي أوله العدالة والمحاسبة لكل المجرمين بلا استثناء، وهذا ما ستقدمه مرة أخرى دليلاً هذه التجربة الرائدة.

حاجة السوريين في الداخل أن يروا أن (الناجون من المعتقلات السورية) استطاعوا فعل أثر ثقافي فني في مكان من العالم، قادر على إثارة قضيتهم بشكل دائم وعملي أمام الرأي العام العالمي ومنظمات المجتمع المدني في العالم والهيئات الحقوقية والمحاكم الدولية المختصة.

من حق السوريين أن يشعروا أنهم صاروا أكبر من الندب والبكاء وتمثيل دور الضحية، وأنهم صاروا يفعلون شيئاً ذا قيمة قانونية وأخلاقية يسعون من خلالها لتقديم المجرم إلى العدالة وهي الخطوة الأولى على طريق حلمنا السوري.

الآن وبعد الانتهاء من إنجاز التمثال، سنظل ننتظر اللحظة التي سيصل فيها أبو العلاء المعري إلى عاصمة النور باريس محطته الأولى في طريقه إلى وطنه الأم سوريا.