العدمية بين المعري و شوبنهاور .. فكــرة خــلاص

عماد الدين الجبوري

كاتب و أكاديمي عراقي

مقدمة

عندما اتخذ مؤسس الفلسفة الحديثة رينيه ديكارت مبدأ الشك لليقين، كان الإمام الفيلسوف أبو حامد الغزالي قد سبقه فى ذلك بعدة قرون، وكذلك كانت أسبقية ابن خلدون على كارل ماركس فى علم الاجتماع. وإذا كان دانتي قد اقتبس فكرة “الكوميديا الإلهية” من كتاب المعري “رسالة الغفران” بعد ترجمتها إلى اللغة اللاتينية، فإن الأخير كان أيضاً سباقاً بطرح “العدمية” قبل شوبنهاور والفلسفة الوجودية عموماً وبزمن بعيد. ولقد فضلنا المقارنة هنا بين أبي العلاء المعري 973-1057 والفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور 1788-1860، دون سارتر وغيره، لأن القاسم المشترك فيما بينهما هو التشاؤم من جهة، وتقارب نوع ما للوضع الفردي حياتياً من جهة أخرى. وسوف نعتمد بشكل عام على ديوان “اللزوميات”، وعلى كتاب “العالم كإرادة وفكرة” الترجمة الإنكليزية.

وقبل أن نحلل العدمية بين هذين الكبيرين، علينا أن نعلم بأن تشاؤمية المعري كانت أسبابها: أنه فقد بصره بعدما أُصابه الجدري وهو في سن الرابعة من عمره، وقَطْع دراسته فى كبرى مكتبات طرابلس الشام بعد وفاة أبيه المفاجئ، وكذلك تَرْك دراسته فى بغداد عندما سمع بمرض أمه، ثم خبر وفاتها وهو في طريق العودة إليها. علاوة على الاضطراب السياسي والحزبي بين الحمدانيين والفاطميين، والنزاعات الحربية مع الروم البيزنطيين.

أما بالنسبة إلى شوبنهاور فإن أباه قد مات منتحراً عام 1805، وسلوكية أمه معه لم تكن بالموقع الحسن، حيث كانت من أروع من نبغ فى عصرها بكتابة القصة، وترفض أن يعلو شأنها الأدبي أى شخص حتى لو كان وحيدها آرثر، فكانت تقسو عليه وتجافيه، خصوصاً بعدما أخبرها الشاعر الكبير غوته بعظمة عقلية ابنها في المستقبل. فضلاً على ذلك سلسلة الحروب النابليونية والاضطرابات السياسية التى كانت تسود أوروبا على مدى عقدين من الزمن.

وهكذا طغت الصفة التشاؤمية على عقلية وتفكير المعري وشوبنهاور، إذ جمعتهما حالة متقاربة الشبه، رغم الفارق بين ظرفي الزمان والمكان والوضع العائلي والتناحر السياسي ورحى الحروب الطاحنة، لذا أمسيا ينظران إلى العالم والطبيعة والمجتمع والفرد من زاوية كالحة لا تطاق.

ما الخير والسعادة عندهما إلا أمور سلبية سرعان ما تأتي سرعان ما تزول، لأن الحياة ملؤها التعب ليس فيها سكينة طوال الامتداد الزمني، والوجود كله شر. وفي هذا يقول المعري:

أَلا إِنَّما الدُنيا نُحوسٌ لِأَهلِها                فَما في زَمانٍ أَنتَ فيهِ سُعودُ

أو

نَـزولُ كَمــا زالَ أَجدادُنـــا                      وَيَبقى الزَمانُ عَلى ما نَرى

ويرى شوبنهاور بأن في “كل فرد حوض من الألم لا محيص عنه”، وحتى إذا فرضنا جدلاً بأن الألم له نهاية، فإنه سوف “يحل مكانه على الفور عناء آخراً” وليس لدينا من ذلك لا مفر ولا محيص. إذن فإن القاعدة الحقيقية للبشرية جمعاء هو الألم المستديم، وإذا تساءلنا علام كل هذا التشاؤم الدامس؟ يأتينا الجواب من المعري:

في العُدمِ كُنّا وَحُكمُ اللَهِ أَوجَدَنا          ثُمَّ اِتَّفَقنا عَلى ثانٍ مِنَ العَدَمِ

أو

نَمُرُّ سِـــراعاً بَيـنَ عُدمَيـنِ ما لَنـا         لَباثٌ كَأَنّا عابِـرونَ عَلى جِســرِ

وينص شوبنهاور أيضاً على أن “الحياة تتأرجح كالبندول إلى الأمام والخلف بين الألم والسأم”، وفى كلتا الحالتين لا خير فى هذا العالم سوى حياة بائسة عافرة.

العقـل

رغم أن المعري و شوبنهور يعتبران فيلسوفين مثاليين، إلا أن المعري كونه شاعر أولاَ، لذا فإنه يمتلك ذبذبة غير مستقرة تجاه العقل، عكس شوبنهاور الذى يمتلك فكراً فلسفياً مستقراً، فإذا كان الأخير قد وضع العقل بعد الإرادة منزلة، فإن المعري نراه تارة ينظر إلى العقل على أنه المرشد الصحيح لأصول المعرفة حيث يقول: 

إِذا تَفَـكَّـــرتَ فِـكـــراً لا يُمـازِجُــــهُ                  فَسادُ عَقلٍ صَحيحٍ هانَ ما صَعُبا

أو

وَلَو صَفا العَقلُ أَلقى الثِقلَ حامِلُه                  عَنهُ وَلَم تَـرَ في الهَيجـــاءِ مُعتَرِكا

وتارة أخرى يمجده أيما تمجيد ويعلو من شأن قدرته حتى يصل به إلى درجة النبوة فى عالم الغيب، وعلينا أن نشاوره وحده:

أَيُّـها الغِــرُّ إِن خُـصِـصـتَ بِعَقــلٍ              فَاســأَلنَهُ فَكُـلُّ عَقــلٍ نَبِــــــيُّ

أو

فَشاوِرِ العَقلَ وَاِترُك غَيرَهُ هَدَراً                فَالعَقلُ خَيرُ مُشيرٍ ضَمَّهُ النادي

ولكن فجأةً يعود ويحط من شأنه وقدرته ويساوي بين منزلة العالِم والجاهل:

وَما العُلَمـاءُ وَالجُهّـالُ إِلّا                  قَريبٌ حينَ تَنظُرُ مِن قَريبِ

هي ذي تذبذبات المعري، ولا غرابة فى ذلك لكونه شاعراً وتغلبه روح التوصية. علاوة على أنه صاحب عاهة مستديمة:

فَاحذَر وَلا تَدَعِ الأُمورَ مُضاعَةً                  وَانظُر بِقَلبِ مُفَكِّرٍ مُتَبَصِّرِ

أما شوبنهاور فالعقل عنده الأساس في البحث عن الحقيقة ويهاجم الفلسفة المادية متسائلاً: كيف نفسر العقل بأنه مادة ما دمنا لا نعلم المادة إلا بواسطة العقل؟  ..ثم لا يمكن أن نستدل عن كنه الحقيقة بالبحث عن المادة ذاتها وثم ننتقل إلى التفكير والعكس هو الصحيح عنده، حيث “أننا لن نصل إلى طبيعة الأشياء الحقيقية إذا بدأنا السير من الخارج”. لذلك أوجب معرفة طبيعة عقولنا أولاً، ثم ننظر إلى العالم الخارجي ثانياً.  وهنا يفسر لنا شوبنهاور لماذا يعتبر العقل أقل أهمية من الإرادة. وحسب تصوره، أن “أغبى إنسان ينقلب إلى مرهف الذكاء إذا ما كانت المسألة المطروحة عليه للبحث تمس رغباته مساً قريباً”.

وإذا حاولنا أن نجعل العقل محل “الإرادة” فهذا خطأ يجب علينا تجنبه. لأن العقل “قد أنتجته الطبيعة ليخدم إرادة الفرد”. كما وأن شخصية الفرد تشكلها إرادته لا عقله، كون أن الإرادة “هي العنصر الوحيد الدائم الثابت”. فالعالم والطبيعة والإنسان عنصرهم الحقيقي هي الإرادة.

إذا أردنا أن نشير إلى الفارق هنا بين المعري وشوبنهاور، فإن الأول لم يتأثر بفكر فلسفي معين، ولم يبن فلسفته على أنقاض من سبقه أو يضعها مقابل من عاصره. أعني أن مبدأه في العقل نابع من إحساسه الفكري الممزوج بالروح الشعرية، بينما الثاني فقد شيّد مبدأه فى العقل مقابل فكرة مواطنه عمانوئيل كانت “الشيء فى ذاته”. ومعاصره جورج هيجل في “الفكر وحدة عضوية”.

حكمة الموت

إن المعري وشوبنهاور ينظران إلى الموت بأنه نعيم، حيث يقطع عنا عناء الألم، بل إنه راحة أبدية ورقاد يستريح فيه الإنسان، يقول المعري:

ضَجْعَةُ المَوْتِ رَقْدَةٌ يُستريحُ الـ               جِسْمُ فيها والعَيشُ مِثلُ السّهادِ

أو

مَوتٌ يَسيرٌ مَعهُ رَحمَةٌ                           خَيرٌ مِنَ اليُسرِ وَطولِ البَقاءِ

ويذهب بعدميته بُعداً تشاؤمياً حاداً عندما يتمنى أن ينقطع النسل ويموت حتى الطفل الرضيع، ويرى العدم نعمة:

وَلَيتَ وَليداً ماتَ ساعَةَ وَضعِهِ             وَلَم يَرتَضِع مِن أُمِّهِ النُفَساءِ

أو

وَأَرَحتُ أَولادي فَهُم في نِعمَةِ الـ        عَدَمِ الَّتي فَضَلَت نَعيمَ العاجِلِ

ورغم أن شوبنهاور يعتبر الموت مروّعاً مفزعاً لكنه أعظم النِعم البشرية، حيث أن حب الحياة مسألة باطلة كاذبة ويجب مقاومة إرادة النسل، إذ “أن إشباع الغريزة الجنسية هو الذي يستوجب المنع لأنه أقوى ما يثبت شهوة الحياة”.

إن هذه السوداوية المضنية إنما تعكس الوضع السلبي الذى عاناه المتشائمان المعري وشوبنهاور حياتياً واجتماعياً. فقد بقيا وحيدين دون أهل ولا أصدقاء، أو لنقل رفضا الزواج والخلان وفضلا الانطواء عن المحيط الذى لم يعزلهما.

الخلود

يذهب الفيلسوفان في هذا المجال بالامتداد التشاؤمي عن أمور الدنيا وما يتعلق بأمر الخلود، فالمعري، وكما معروف لنا، يخضع إلى الشحنات النفسية التي تجتاح جوانحه. فإن كانت سلبية كفر الدين والآخرين، وإن كانت إيجابية تعيده إلى ركن الإيمان. ومع ذلك نجده فى كلتا الحالتين ينفي وجود حياة بعد الموت: 

أَرى هَذَياناً طالَ مِن كُلِّ أُمَّةٍ                 يُضَمَّنُهُ إيجازُها وَشُروحُها
وَأَوصالَ جِسمٍ لِلتُرابِ مَآلُها                وَلَم يَدرِ دارٍ أَينَ تَذهَبُ رَوحُها

ثم يخبرنا بأنه سيرحل عن هذا العالم المادي، ولكن إلى أين؟ لا يعلم! ولذلك يطالبنا بأن لا نرجو منه عودة:

سَأَرحَلُ عَن وَشكٍ وَلَستُ بِعالِمٍ     عَلى أَيِّ أَمرٍ لا أَبا لَكَ أَقدُمُ

أو

أَيُرَجَّـــونَ أَن أَعــــودَ إِلَيـــهِم           لا تُرَجّــوا فَإِنَّني لا أَعــــودُ
وَلِجِسمي إِلى التُرابِ هُبوطٌ           وَلِرَوحي إِلى الهَواءِ صُعودُ

إنها فعلاً حيرة مستعصية عند شاعرنا المعري، وليس له منها من محيص حيث لا يوجد من يسأله فيخبره عما سمع ورأى فى مماته:

فَهَل قامَ مِن جَدَثٍ مَيِّتٌ           فَيُخبِرَ عَن مَسمَعٍ أَو مَرى

ثم:

هَل فازَ بِالجَنَّةِ عُمّالُها                وَهَل ثَوى في النارِ نوبَختُ

أما شوبنهاور فيشير إلى أن “الإنسان بعد أن كون من آلامه وعذابه فكرة الجحيم رأى أن لم يبق لديه شيء يكون منه الجنة إلا الملل”. وحسب تصوره فإن الإنسان منذ نعومة أظافره يحس ويلتمس بمرارة هذا العالم الكريه المملوء شراً. وبما أن شوبنهاور قد آمن بفكرة “النيرفانا” أو تناسخ الأرواح وفق العقيدة البوذية، لكن المعري يرفض هذه الفكرة. لذا فإنه أكثر وضوحاً من شوبنهاور في هذا الشأن، حيث يؤمن بقدرة الله المطلقة بإحياء الموتى وحشر الخلق:

وَقُدرَةُ اللَهِ حَقٌّ لَيسَ يُعجِزُها         حَشرٌ لِخَلقٍ وَلا بَعثٌ لِأَمواتِ

أو

وَمَتّى شـــاءَ الَّذي صَــوَّرَنا               أَشعَرَ المَيتَ نُشوراً فَنَشَر