الحديقة السوريّة الخضراء
عيسى الشيخ حسن
شاعر وروائي سوري
أبو العلاء المعرّي دخلت حديقة المعرّي صغيراً، مسكونًا بالأسئلة الكبرى التي يطرحها.
كنّا في الصفّ الحادي عشر، حين قرأنا له داليّته: غير مجدٍ في ملّتي واعتقادي نوحُ باكٍ ولا ترنّمُ شادِ في نصّ غنيّ بإشاراته إلى الحياة والدين، بمعجم لفظي ثريّ، وعبارات خارجة من حلية الشعري إلى حدود الفلسفي، في أسئلته: “أين القبور من عهد عادِ؟” و”أبكت تلكم الحمامة أمّ غنّت؟” مردفًا بعبارته الأثيرة “تعبٌ كلّها الحياة”.
وقفت على حديقة المعرّي في رحلته السرديّة “رسالة الغفران” بعد سنتين من داليّته تلك، وأزعم أن أدواتي المعرفية يومها لم تمكنّي من المكوث في تلك الحديقة، غير أنّي استرجعت تلك الرحلة على مهل، بصورها، وأسئلتها، مضيفاً ما يستجدّ من قراءات تالية.
لم يكن المعرّي شكوكيًّا نكدًا، لم يكن من “الخرّاصين” بل كان شكّه وجدانياً، عتوباً، وهو يرى الإنسانية تتقلّب على نار الظلم والحروب الجائرة والاستقطاب الديني والمذهبي، فثمة إنسانيّة معذّبة جديرة بأسئلة جديدة. كانت أسئلة رجل حبس نفسه عن طيب الطعام و بلهنية العيش، ولزم ما لا يلزم في الحياة والشعر، ضاربًا المثل في رسم المثال السوري لراهبٍ في محراب الشعر والدين والحياة معًا.
كان المعرّي سوريًّا “أصيلًا”، ابن الشجرة الشاميّة التي تطعّمت من أغصانٍ كثيرة بطعوم وثمار أخرى، ابن القصيد العربيّ، والمنطق اليوناني، والوجدان الشاميّ. حرّك أسئلته، وبقي بعيدًا عن راحة الطمأنينة، ليس بدافعٍ من شكٍّ بارد، وإنّما بقلقٍ عميق، تثيره مواجع قدر الجغرافيا، الذي جعل من بلاده، ممرًّا للفاتحين في تجارب الأمم وتعاقب الهمم بحسب ابن مسكويه، كان قلق الواقف على آثار كلّ هذا في صراع الأفكار والمذاهب والأديان، وفي كلّ هذا كان المعرّي يتمثّل صورة المثقف الرافض.
رفض أكل الدجاج لأنّهم استضعفوه فوصفوه، ورفض استقبال نعمةٍ لا تهطل على غيره “فلا هطلت عليّ ولا بأرضي* سحائب ليس تنتظم البلادَ” ورفض أن يجني على أحد، برفضه الزواج، ورفض أن يضحك، لأنّه ليس حقّ لسكان البسيطة إلّا البكاء. لا أظنّ أن المعرّي كان عدميّاً، بقدر ما كان محتجّاً على مكوّنات وجوده، وإلّا ما ترك لنا بعده هذه الحديقة الخضراء. الحديقة السوريّة الخضراء.