صورة الإنسان في اللزوميات

أحمد نسيم برقاوي

مفكر وفيلسوف عربي

كيف تأتى أن يكون أبو العلاء المعري موضوعاً دائماً للقراءة، ما الذي يجده في المعري فيلسوف منتم إلى ذاته وإلى عصره الراهن ؟ فهل من الحكمة أن ألُبس المعري لبوس فلسفة الأنا التي تشغلني الآن؟ أم نقوّل المعري ما لم يقله؟

أنطلق من أن نص المعري نص مفتوح لقراءات متعددة، نص ينطوي على إمكانيات قراءة. وآية ذلك أن المواضيع التي انشغل بها فيلسوف المعرة مواضيع كلية إنسانية لا يمكن أن يصيبها البلى. وأهم هذه المواضيع: الإنسان، الإنسان من حيث وجوده ومصيره وقيمه وأخلاقه. وعندي أن الفيلسوف الذي يجعل من الإنسان موضوعاً دائماً له، فيلسوف يسمح لتاريخ الأفكار أن يحتفظ به، ويشهره لأن الحاجة إليه سرعان ما تظهر عند كل حال من أحوال أزمة الإنسان. ولعمري أننا في هذا العصر نعيش أزمة خانقة وصعبة وخطيرة ألا وهي أزمة الإنسان.

فإذا كان الأوروبي يتحدث اليوم عن موت الإنسان وعن البنيوية تعبيراً عن هذا الموت، وعن نهاية الإنسان تعبيراً عن همجية التقنية، وعن غياب الإنسان رفضاً للمؤسسات المغيبة له، فإنه عملياً يتحدث عن إنسان كان عائشاً ومات، وعن إنسان كان فاعلاً وانتهى وعن إنسان كان حاضراً فغاب. غير أن العربي باستطاعته أن يعلن بكل شجاعة ودون أن يخالجه الشعور بالخطأ أن الإنسان في عالم العرب لم يولد بعد. ولهذا فإن المفكرين والفلاسفة لم ينشغلوا بحال الإنسان رغم هواجسهم الكلية حول الأمة ومصيرها.

إن استعادة الإنسان في وعي المعري تأتي في إطار البحث عن شروط ولادة الإنسان عبر قراءة يتحملها نص مليء بأحوال الإنسان.
ولأني في حقل البحث الأكاديمي المحدود فلقد آثرت أن أقف عند لزوميات أبي العلاء المعري فقط، وغايتي كشف الحدوس الفلسفية العلائية المتعلقة بالإنسان.
وإذ أقول الحدوس الفلسفية فهذا لأن أبا العلاء قد كتب الفلسفة حدوساً في إهاب شعري، كتبها شعراً في إهاب أحكام كلية، فلسنا أمام نص أرسطي أو هيغلي أو فوكوي.. بل أمام شذرات فلسفية أرادها صاحبها نظرة إلى العالم، لكنها تسمح للقارئ أن يلم شتاتها ويدخل معانيها ليصوغ منها نصاً مكتملاً من الأفكار حول الوجود ومعناه وحول الإنسان وأحواله. كل أبناء الدنيا أوباش و أخساء.
نحن أمام حكم أخلاقي سلبي، الإنسان تافه وحقيـر.

إن نظرة كهذه للإنسان تلقي بظلها على كل أنماط حياته وصورها. فالإنسان هذا المعتد بذاته ليس في الأصل إلا كائن غبي.

حُكمٌ جَرى لِلمَليكِ فينا         وَنَحنُ في الأَصلِ أَغبِياءُ2

لماذا نحن أغبياء، يتيح لنا نص اللزوميات أن نستنتج أن الغباء الإنساني يظهر بعلاقة الإنسان بالحياة وحبه لها، وتعلقه بالزائل. بل إن الغباء الإنساني يظهر أكثر ما يظهر بصفة قلما قالها أحد بحق الإنسان:

تَفَرَّقوا كَي يَقِلَّ شَرُّكُم              فَإِنَّما الناسُ كُلُّهُم وَسَخُ

ترى: هل كل البشر وسخون؟ أم أن الإنسان مجبولٌ من وسخٍ؟ وسواء كان هذا أوذاك فالحكم أيضاً كلي فإنما الناس كلهم وسخ، أيضاً نحن أمام قضية كلية. وإن تجلى وسخ الإنسان فإنه أكثر ما يتجلى في أخلاق الناس وبخاصة الرياء.

أُرائيكَ فَليَغفِر لِيَ اللَهُ زَلَّتي          بِذاكَ وَدينُ العالَمينَ رِياءُ

ويؤكد هذا المعنى بيت آخر:

قَد حُجِبَ النورُ وَالضِياءُ        وَإِنَّما دينُنا رِياءُ 3

وليس الرياء هنا إلا الأخلاق نفسها، فالرياء هو الدين الحقيقي للخلق أجمعين، فالبشر بهذا المعنى كائنات كذابة بامتياز. ولعمري أن كل هذه الصفات السيئة وغيرها ما كانت لتكون لو لم يكن الإنسان بالأصل كائناً شريراً.

أَلَم تَرَ أَنَّ الخَيرَ يَكسِبُهُ الحِجى         طَريفاً وَأَنَّ الشَرَّ في الطَبعِ مُتلَدُ . 4

أن يكون الشر فطرياً والخير مكتسباً فهذا يعني أن الحياة شرٌ وما الوصول إلى الخير إلا عملية يكتسبها الإنسان بالتربية وبالعقل. ولكن هيهات أن يصل الكائن إلى الخير إذا كان لا عقل له. بل إن الشر في كل ما هوحيوان على هذه الأرض:

وَالشَرُّ في حَيوانِ الأَرضِ مُفتَرِقٌ           وَالإِنسِ كَالوَحشِ مِن ضارٍ وَمُبتَقِلِ

لا فرق بين الإنسان والوحش، بين آكل اللحم وآكل البقول فكلكم شرير. والحق أن الحياة تسمح للمعري أن يصل إلى حكم كهذا، فالصراعات بين البشر على الدنيا لا تنتهي، والقتل من أجل المأكول والمنكوح جارٍ جريان السنين، ولا يتوقف الأمر على ماضي الحياة وحاضرها، فرؤية التاريخ، تاريخ الحياة الإنسانية، يؤكد استمرار الشر في الحياة. ولهذا يؤكد المعري المعنى الذي أذهب إليه حين يقول:

مَضى الزَمانُ وَنَفسُ الحَيِّ مولَعَةٌ         بِالشَرِّ مِن قَبلِ هابيلٍ وَقابيلِ
سُــبحانَ مَن أَلهَمَ الأَجناسَ كُلَّهُمُ            أَمراً يَقودُ إِلى خَبَلٍ وَتَخبيلِ

ويبدو أن لا أمل في الخلاص من شر الإنسان، وذلك لأنه مجبول عليه، ولعمري أن سؤال المعري سؤال ممض :

أكان أبوكم آدم في الثرى أتى          نجيباً فترجون النجابة للنسل

تقودنا فكرة الإنسان بوصفه شراً إلى أمر في غاية الأهمية، ألا وهو: كيف نقلل من شأن الشر في الحياة؟ فلا يمكن للحياة أن تجري مجرى آمناً والشر مبثوث في بني البشر. ولسنا نميل مع المعري إلى أن الأمل مفقود في حياة يقل فيها الشر، وإلا استبد بنا اليأس وفقدنا لذة الوجود. ومع اعتقادنا بأن الإنسان شرير بطبعه، فإن حب الحياة آمنة تخلق لدى البشر تصوراً للجم هذا الشر، وإلا بررنا الشر.
هنا تظهر أهمية العقل والأخلاق والقانون والدولة وما استعار البشر من عادات تلجم شرورهم، وإذا كان المعري قد شهد عصراً مليئاً بالصراعات والشرور، أقل من عصرنا فماذا يقول لو أنه عاش في هذا العالم؟ لظل يردد:

وَزَهَّدَني في الخَلقِ مَعرِفَتي بِهِم             وَعِلمي بِأَنَّ العالَمينَ هَباءُ 5


الـمــوت :


يَأتي عَلى الخَلقِ إِصباحٌ وَإِمساءُ                  وَكُلُّنا لِصُروفِ الدَهرِ نَسّاءُ 6

أجل: فالإنسان نسّاء، وأكثر أمرٍ قابل للنسيان من قبل البشر هو الموت، نسيان العدم، ونسيان العدم بقاء الطبيعة الشريرة عند الإنسان بلا لجم. وآية ذلك أن الإنسان إذا ما تذكر دائماً فكرة الموت بوصفها موته قل نزوعه نحو الشر، لأن الزوال سيلفه ويلف عالمه ومايملك. فـ :

وَأَرواحُنا كَالراحِ إِن طالَ حَبسُها               فَلا بُدَّ يَوماً أَن تَكونَ سِباءُ 7

ولا مفر من الموت:

نَفِرُّ مِن شُربِ كَأسٍ وَهيَ تَتبَعُنا                 كَأَنَّنا لِمَنايانا أَحِبّاءُ 

إن فلسفة الموت عند العرب قديمة وبسيطة جداً. إن القول في الموت قد خرج من معطف طرفة بن العبد:

أَرى قَبرَ نَحّامٍ بَخيلٍ بِمالِهِ               كَقَبرِ غَويٍّ في البَطالَةِ مُفسِدِ
لَعَمرُكَ إِنَّ المَوتَ ما أَخطَأَ الفَتى     لَكَالطِوَلِ المُرخى وَثِنياهُ بِاليَدِ

إلا المعري فلقد صاغ فكرة الموت بوصفها عبثاً وجودياً، فإذا كان الموت يوحى بضرورة أن نغتنم من الحاضر لذاته على قول الخيام الذي يقتفي أثر طرفة بن العبد:

فَإِن كُنتَ لا تَسطيعُ دَفعَ مَنيَّتي                فَدَعني أُبادِرها بِما مَلَكَت يَدي

أقول إلا المعري، لأن فكرة الموت عند المعري تؤدي إلى زهدٍ في هذه الحياة بانتظار المصير المحتوم، والسبب يعود إلى احتقار المعري للإنسان نفسه، فما الإنسان إلا هذا التراب الذي يعود إلى التراب:

فَمِن تُرابٍ إِلى تُرابٍ               وَمِن سُفاةٍ إِلى سُفاةِ

الموت عند المعري سخرية من الحياة، بل صورة من صور لا معناها، وبالتالي فإن الاعتقاد بلامعنى الحياة يلغي من النفس كل نزوع نحو السعادة الدنيوية:

إِنَّ التَوابيتَ أَجداثٌ مُكَرَّرَةٌ            فَجَنِّبِ القَومَ سَجناً في التَوابيتِ

لم أعثر على من أعطى هذا البيت من الشعر معناه العميق، بل اكتفوا بظاهره.

التوابيت أجداث مكررة، قبور مكررة، يعتقد بعض الشارحين أن المعري يقصد أن التابوت قبر، فلا تقبر الميت مرتين مرة في التابوت ومرة في القبر. لا إن الإنسان في الأصل قائم في القبر منذ ولادته فالجسد قبر النفس.

أَراني في الثَلاثَةِ مِن سُجوني             فَلا تَســـــأَل عَنِ الخَــبَرِ النَبيـــــثِ
لِفَقـدِيَ ناظِـري وَلُـــزومِ بَيتـي              وَكَونِ النَفسِ في الجَسَدِ الخَبيثِ

الإنسان في الأصل سجين في التراب، وهو ينتقل من تراب إلى تراب. فالنفس تابوت نشأت من تابوت وتعود إلى تابوت، فالحقيقة المطلقة هي الموت. لكن هل يفنى الإنسان جسداً وروحاً؟
لا شك أن الثقافة التي تفصل بين الجسد والروح عميقة الجذور في الوعي الإنساني، وفي اللزوميات لا نظن أن المعري يذهب مذهب خلود الروح، أليس هو القائل:

الروحُ تَنأى فَلا يُدرى بِمَوضِعِها               وَفي التُرابِ لَعَمري يُرفَتُ الجَسَدُ 12

وإذا كان أبوالعلاء قد ضاق ذراعاً بوعي الناس العامي، فأولى به أن يضيق ذرعاً بالقول حول الروح.

حَديثٌ جاءَ عَن هابيـ.              لَ في الدَهرِ وَقابيـلا
وَطَيرٌ عَكَفَــت يَومــاً              عَلى الجَيشِ أَبابيـــلا
مَتى تَرحَلُ عَن دُنيا               تَزيـــدُ الأَهــلَ تَخبيـلا

طبيعة الناس وأخلاقهم والموت كل ذلك يجعل من المعري زاهداًبالخلق كلهم: 

وَزَهَّدَني في الخَلقِ مَعرِفَتي بِهِم             وَعِلمي بِأَنَّ العالَمينَ هَباءُ

 

الهوامش :

1- أبوالعلاء المعري – لزوم ما لا يلزم – دمشق 1986 – شرح محمد نديم عدي ص.39

2- اللزوميات ص.47

3- اللزوميات ص.36

4- اللزوميات ص.399

5- اللزوميات ص.32

6- اللزوميات ص.39

7- اللزوميات ص.34

8- اللزوميات ص.40

9- اللزوميات ص.295

10- اللزوميات ص.279

11- اللزوميات ص.38

12- اللزوميات ص.415

13- اللزوميات ص.1272

14- اللزوميات ص.39