نبذة عن أبي العلاء المعري

فاروق مردم بك

كاتب وناشر

لاشك في أنّ المعرّي أقرب الشعراء العرب القدماء إلينا، فقد قاده عقله المتحرّر و ضميره اليقظ وطبعه السوداوي إلى استقصاء مسألة وجود الإنسان ومصيره، وإلى نقد نفاذ للمؤسّسات السياسية والدينية في عصره – وربّما في جميع العصور.

ولد أبو العلاء المعرّي في العام 973 في بلدة معرة النعمان الواقعة في شمال سوريا، وفقد حاسة النظر وهو في السنة الرابعة من عمره.

كان أبوه من أعيان بلدته وعلمائها، فتولى بنفسه تدريسه مبادئ العلوم النقلية والعقلية، وما إن توفي في 987 حتى ذهب أبو العلاء إلى حلب لمتابعة دراسته وأقام فيها إلى أن بلغ العشرين، فعاد إلى المعرّة وقد سبقته شهرته شاعراً وأديباً.

عاش في مسقط رأسه خمسة عشر عاماً منكبّاً على التأليف والتدريس، مكتفياً بالقليل في مأكله وملبسه، ثم توجه إلى بغداد عاصمة الخلافة العباسية، مؤملاً أن يطلع على ما تذخر به مكتباتها العامرة، وأن يسطع نجمه في حلقاتها الأدبية، وقد رويت في كتب الأدب العربي على لسان معاصريه في بغداد أخبار عن فقره المدقع وضيق خلقه وحدة ذاكرته وإيثاره العزلة.

ولم تمض ثلاث سنوات وهو في هذه الحال حتى علم بأن أمه في نزعها الأخير، فقرر العودة إلى المعرّة حيث عاش طوال خمسين سنة متقشفاً، شديد القسوة على نفسه، منعزلاً عن الناس لا يستقبل إلا حفنة من طلاب العلم، يستعين بهم في القراءة ويملي عليهم مؤلفاته.

توفي في 1057 بعد أن أوصى بأن يكتب على شاهدة قبره: “هذا جناه أبي عليّ وما جنيت على أحد.

ألف المعرّي مايقرب من ستين كتاباً لم يصلنا منها إلا عشرة: خمسةٌ من نثره، أشهرها “رسالة الغفران” التي ترجمت إلى كثير من اللغات الأوروبية، وديوانان شعريّان هما “سقط الزند” و “لزوم ما لا يلزم”، وثلاثة شروح لأشعار المتنبي وأبي تمام والبحتري.

تخيل أبو العلاء في “رسالة الغفران” رحلة قام بها أحد النحويين في أرجاء العالم الآخر، حيث التقى بكثير من الشعراء والأدباء، وضمّنها نقداً لاذعاً لأشعارهم وأقوالهم، وسخر من التفاسير السطحية الساذجة لوصف الجنة والنار في القرآن.

أما ديوان “سقط الزند” فيضم قصائد المعري في شبابه، وتتجلى فيه براعته في تناول الأغراض التقليدية، وخصوصاً المدح والرثاء، وغزارة معجمه الشعري، إلا أن أهم أعماله هو ديوانه “لزوم ما لا يلزم”، جمع فيه طائفة من مقطوعاته الشعرية التي نظمها في مرحلة عزلته و تنسّكه، والتزم فيها قواعد صارمة في التقفية، وأطلق العنان لفكره النقدي القلق، العصي على التعريف بمصطلح من المصطلحات الدارجة.

ولذا تعددت فيه الآراء، فوصف المعري حيناً بأنه ملحد، وحيناً بأنه لا أدري، أو ريبـّي، أو عقلاني، أو مادّي، أو ربوبّي، أو غنوصيّ،…إلخ.. وتنوعت المواقف منه بحسب القراءات.

كان المعري قبل كل شيء مفكراً حراً، لم تنج من نقده أي عقيدة وأي مذهب، سخر من جميع الأديان، ومن الكٌهّان والفقهاء والكلامّيين والفلاسفة والمتصّوفة والباطنّية على السواء، مواجهاً بتشاؤمه المطلق عبثّية الحياة والموت. فلا غرابة في أن ُيحّير شارحيه قديماً وحديثاً، أكانوا عرباً أو ُمستشرقين، ولا في أن يثير حتّى اليوم غضب المتعصبين على اختلاف مشاربهم.

ولا أدّل على حالّية المعّري أكثر من الفعلة النكراء التي ارتكبها بعض الجهادّيين في 2013 حين قطعوا رأس تمثاله في معرة النعمان، وكأنهم ينتقمون انتقاماً رمزياً من الشاعر الذي ندد بالآفتين اللتين يعاني منهما العالم العربي؛ الاستبداد السياسي والظلامّية الدينّية.