نبذة عامة عن فلسفة أبي العلاء المعري
أحمد برقاوي
أكاديمي وكاتب
من الصعب جداً أن يؤرخ لمسار العقل في كفاحه الفكري من أجل استقلاله وحريته من دون الوقوف عند المعرّي، هذه العلامة البارزة، التي أعلنت مركزية العقل قبل ستة قرون من إعلان الفيلسوف الفرنسي «رينيه ديكارت» بأن «العقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس». وبكل وضوح فيلسوف العقل قال أبو العلاء:
وما إعلان مركزية العقل بوصفه إماماً وحيداً إلا رفض لكل ما لا يقبله التفكير العقلي الذي ينتمي إلى الظن. مؤكداً مركزية الإنسان وحقّه في الشك والرفض والتيقن والبرهان.
ولهذا وجد أبو العلاء أن النقيض للعقل هو الدين الذي يفتقد إلى أدوات العقل في التفكير. وأن يقسم فيلسوف شاعر عاش من نهاية القرن العاشر الميلادي حتى منتصف القرن الحادي عشر وفِي عصر ساد فيه «الظن» في أرجاء البشرية كلها، لهو أمر يعلي من شأن المعري في تاريخ العقل الإنساني، أليس هو القائل:
وتأسيساً على هذا القول بوصفه حكماً كلياً راح هذا الفيلسوف الشاعر يؤلف الكتب الكثيرة، بدءاً من كتابه الأبرز «رسالة الغفران» – التي نسج على منوالها الشاعر الإيطالي «دانتي اليغييري» «1265-1321» الكوميديا الإلهية – مروراً بكتبه: «رسالة الملائكة» – «الفصول و الغايات» – «سقط الزند» وانتهاءً بكتاب «لزوم ما لا يلزم»، الذي أودعه كل حدوسه الفلسفية حول الإنسان والدين والعقل.
وسؤال الإنسان «عند أبي العلاء» سؤال أساس، لأن الإنسان هو مصدر الشر والخير. فالإنسان كما يراه « المعري « شرير في طبيعته، وهو القائل:
تأكيد المعري أن الإنسان شرير بطبيعته – وهي الفكرة التي عبر عنها الفيلسوف الإنكليزي «توماس هوبز 1588-1679» بقوله «إن الإنسان ذئب» – وتأكيده بأن الخير مكتسب عن طريق العقل يقود إلى نتيجة مفادها: إن تحرر الإنسان من الشر يعني التحرر من طبيعته عن طريق ما يناقضها، ألا وهي الثقافة التي ينتجها العقل. وعندها ينتقل الإنسان إلى الخير الذي هو مكتسب.
إن المعري يطرح علينا – نحن أحياء القرن الحادي والعشرين – سؤالاً ما زال الإنسان يحار في الإجابة عنه: كيف السبيل إلى الخلاص من الشر الإنساني الذي يظهر الآن في صور الحرب والقتل والدكتاتورية والاحتلال والعنصرية والقمع والاستغلال، بل كيف استطاع العقل أن يسوّغ هذا الشر كله بأيديولوجيات مدافعة عنه؟ بل إن المعري وقبل عشرة قرون طرح على البشر سؤاله المدهش: كيف للإنسان وهو يعرف الحقيقة التي لا لَبْس فيها وهي موته أن يقبل على الدنيا بهذه النزعة الشريرة؟
فالموت عند المعري دليل على عبثية الوجود الإنساني.
وأبو العلاء الذي قاده عقله الجَسُور إلى الشك والسخرية من وسخ الإنسان وشره قاده أيضاً إلى ماهو أخطر من ذلك، قاده إلى أن يعلن من دون تورية أو تقية أن الأديان هي شر وخطر على حياة الإنسان.
فنقد الدين هنا لم يعد نقد هذا التصور أو ذاك من التصورات الدينية، بل نقد الدين نفسه بوصفه أصلاً من أصول العداوات بين الناس. وليس هذا فحسب، تصل عقلانية المعري حداً يدعو إلى الدهشة حين يرى في الترسيمات الدينية مجموعة من الأباطيل.
أليس هو القائل:
أجل لم يترك هذا التنويري الشجاع وهماً من الأوهام إلا وجرد عقله لمقارعته. بل إن أسئلة المعري بما تنطوي عليه من كلية حول الدين والشر والخير والإنسان والموت وأجوبته التي جهد في الوصول إليها هي ذاتها أسئلة جزء كبير من سكان الأرض، وما زالت تحضر أمام كل جيل.
ومن هنا تبرز راهنية أبي العلاء المعري وأهميته في مواجهة أعداء الحرية والعقل والإنسان.
عام 1944 نُصب تمثال لأبي العلاء نحته الفنان السوري «فتحي محمد قباوة» في مسقط رأسه، وأزاح الستارة عنه عميد الأدب العربي «طه حسين».
وعام 2013 حطمت مجموعة ظلامية التمثال بقطع رأسه.