ماهية العقل عند المعري
مثيم الخزرجي
قاص و كاتب
من أدواته فلسفة لم تتحذلق على أوتار الحقيقة، كان يؤم الناس إلى صلاة العلم لرب العقل الذي هو عيبهُ الوحيد في نظر الأقزام، منظراً ساخراً متصوفاً، لم يؤمن بالأريكولوجيا الوراثية، مُتّبع ولم يتبع، غير تقليدي في آرائه الصريحة التي أصبحت سبّة فيما بعد من لدن الطارئين من المؤرخين، أرسطي الهوى ساخراً من أمةِ متغابية لا تريد أن تفهم، فانفرد وكتبهُ منعزلاً من عالم المتاجرة بالذات الإنسانية إلى عالم السخرية الفكرية العقلانية الهادفة.
فالعقل عند المعري موجود في كل شيء، إذ هو كائن مرتبط معه ارتباطاً سوسيولوجياً معتمداً على النظرية العلمية الواقعية في تحليل الأمور وتصنيفها بعيداً عن الاختلاجات العاطفية والهوس الاتّباعي في ولادة الآراء، منطقياً حد الجنون، مبادؤه ليست من النوع المتطرف وبتعبير أدق آراؤه إنسانية عقلانية نيّرة لم تتأتى من عبث أو بداهة، بالعقل سوّر حريته وكرامته، وتعالى على الطارئين والدعاة المأجورين وفضح المزيفين والمنافقين، على حساب تهميش الفكر وطمر حرية الإنسان ودمار الوعي الواعظ، لا يعتمد على الظنية والحدس، غير متردد في طروحاته النقدية أدبية كانت أم دينية إذ لايجتهد إلا من خلال العقل الذي يقودهُ لاتخاذ الآراء وتبويبها بوعيا أدبي مكتنز.
كَذَبَ الظَنُّ لا إِمامَ سِوى الـ عَقلِ مُشيراً في صُبحِهِ وَالمَساءِ
فَإِذا ما أَطَـعتَــــهُ جَـلَـبَ الــ رَحمَةَ عِندَ المَســـيرِ وَالإِرســـــاءِ
إِنَّما هَذِهِ المَذاهِبُ أَســــبا بٌ لِجَذبِ الدُنيــــا إِلى الرُؤَســــاءِ
فنلاحظ من خلال البيتين إن المعري لا يؤمن بالخيال آو الظنية التي كانت النسق المؤدلج سياسياً ودينياً، داعياً الإيمان أن يكون بالعقل لا غيره، فهو الطريق السليم والآمن للنجاة من موجة الأغبياء والمتهارشين من رجالات الدولة، والدعاة من الجهلة الذين ألّهوا الحكام وجعلوهم أرباب. كانت عزلتهُ وتصوفهُ فكرياً قبل تصوفه الروحاني إذ ترفع عن العالم الخارجي الذي كانت تسودهُ التعبوية الفكرية المتمثلة في محاربة العقل والتجريح بكرامة الإنسان مؤولاً ذلك إلى عدم الرجوع للعقل وإعطائه الدور في الحكم، فانقطع عن العالم وبنى عالمهُ الخاص متكئاً على العقل، لكنه لم ينقطع عن طلابهِ ودارسيه من أصحاب طلب العلم والمعرفة، فظل يرفدهم بآرائه الجريئة وأطاريحه المدروسة، منتقداً للدنيا لما فيها من أحداث يندى لها جبين كل إنسان يفكر، فامتطى جواد العقل والتزم بعنان الفكر وظل يسرح ويمرح مابين كتبه ضاحكاً على السفهاء متحصناً بوعي قل نظيره، إذ كان يحلل الأشياء تحليلاً عقلانياً غير ساذج معتمداً على نبوءة العقل لا على الوراثة التفكيرية التي كانت ولازالت سائدة.
أَيُّها الغِرُّ إِن خُصِصتَ بِعَقلٍ فَاِسأَلنَهُ فَكُلُّ عَقلٍ نَبِيُّ
فالعقل عند المعري كائن معرفي يستطيع أن يستنبط منه جميع الأحكام التي كانت محل خلاف الأقوام، فهو النبي المرسل من الله الوعي ورب الفكر الذي لا يعتمد على التكهن في استنباط الحكم العلائي، فقد سبق المعري الفيلسوف باسكال بأكثر من ألف عام في أحقية منهج العقل حيث وجده هو الطريق الصحيح في برهنة صحة الأمور حتى في الماورائيات الدينية، فعندما أخذت المتاجرة الدينية بالنفس البشرية وازدراء المفكر وتساوي الماجن بالمؤمن، نأى عن نفسه وتمسك بعقله وتفرد باحتضان الذات والانطلاق إلى تحليل الأمور تحليلاً دقيقاً منصاعاً للعقل. صحيح أن باسكال فيلسوف مهم وصاحب منهج رائد، لكن لأبي العلاء منهجهُ المنطقي المرتكز على الواقعية في إيجاد الحلول لاسيما أن الكثير من فلاسفة الإسلام قد تخلوا عن العقل وآمنوا بالحدس والظنية والماورائية الخيالية؛ كالأشاعرة والأفلاطونيين والأفلوطنيون والمتصوفة وبعده الغزالي. وهذه الفرادة لأبي العلاء تجعلنا نقف طويلاً متأملين هذا الأعمى البصير والشاعر الفيلسوف الذي اختط لنفسه طريقاً منفرداً بعيداً عن الجدلية المقيتة والأطاريح المملة.
فَشاوِرِ العَقلَ وَاِترُك غَيرَهُ هَدَراً فَالعَقلُ خَيرُ مُشيرٍ ضَمَّهُ النادي
ومن باب آخر نجد أبو العلاء قد سبق هوكو ومن معه من الرومانسيين بأكثر من ألف عام بقولهم إن الشعراء أنبياء من الناحية المنطقية، في حين أن لأبي العلاء رأياً عقلانياً أكثر رجاحة بقوله أن لا نبي غير العقل ولا إمام غيره من الناحية المعرفية الفكرية، فغاص في الماورائيات الدينية، ففند بعضاً منها ورجح البعض الآخر، ما دعى بعض المتقوّلين على الافتراء عليه باتهامه بالإلحاد والوجودية، من أمثال القاضي المنازي والزوزني وعبد السلام القزويني، في حين كان المعري يؤمن بوجود الله، لأن العقل الذي يعتبره إمامه هو الذي يهديه إلى الآراء السديدة والحكم الواعظة التي أصبحت مناراً يحتذى به مؤكدا ذلك بقوله:
فَلَكٌ يَدورُ بِحِكمَةٍ وَلَهُ بِلا رَيبٍ مُديرُ
أما من باب إنكاره لبعض الرسل والأنبياء، فيرجح الأستاذ خليل شرف الدين الخلاف القائم في كونهِ تهمة لم نر ما يبررها سوى أنها حكم متسرع على بعض أبيات المعري، إذ كان يحذر فيها من الجدل في بعث الأنبياء وإرسال الرسل وتحكيم العقل في القضية بحسب قوله:
قَد طالَ في العيشِ تَقيِيدي وَإِرسالي مَنِ اِتَّقى اللَهَ فَهوَ السالِمُ السالي
وَاِرقُب إِلَهَكَ في عُســـرٍ وَفي يُسُـــرٍ وَاِترُك جِدالَـكَ في بَعـثٍ وَإِرســــالِ
والتحذير من الجدل في ذلك لا يعني الإنكار وإنما هو كما يقول عميد الأدب العربي طه حسين غير مطمئن وقلق و محتاط إلى إعلان شكه فيها.
يبقى المعري أحد أعمدة الأدب العربي متفلسفاً ساخراً، وحق القول بأنه شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء الذي كان للمنظور العقلي دور مهم في نتاجهِ الأدبي.