الذب عن أبي العلاء المعري
عبد القدوس الهاشمي
باحث و مترجم
القسم الأول
كأني في لِسانِ الدهْرِ لَفْظٌ تَضَمّنَ منه أغْراضـــاً بِعادا
يُكَـــرّرُني ليَفَهَمَنــي رِجـالٌ كما كَرّرْتَ مَعْنىً مُسْتَعادا
أبو العلاء المعرّي
مقدمة الكاتب
اللهم وفق وأعن..
أتابع الأخبار كما يفعل كل مواطن عربي فنحن العرب كما يقول صديقي ناصر “حيوانات سياسية” لا نستطيع تجاهل نشرة الأخبار. فمصائرنا معلّقة بحكوماتنا، وحكوماتنا عالم غيبيّ لا نعرف عنها إلا عن طريق نشرة الأخبار. آفة الأخبار هنا أنها تملأ عقلك سخفًا وقلبك يأسًا، وبدأت أخشى على نفسي.. فلجأت لمكتبتي. كنت بحاجة لشيء يشعرني بالتعالي على هذه الحياة البائسة، فصحبت أبا العلاء المعري، والمعري رضوان الله عليه رجل تخلق فيك كتاباته سموًا فلا يزال يزيد في عقلك بأدبه وعلمه، ولكن الأهم أنه يغسل قلبك من هذا الناس ويولّد في نفسك شعورًا لازدراء الحياة والسخرية منها ويداويك من داء الأمل والتعويل على من لا معوّل عليه.
جَرّبْتُ دَهْري وأهلِيه فما تَرَكتْ ليَ التّجارِبُ في وُدّ امرِئٍ غَرَضا
في صحبة المعري
صَحِبتُه، فكان نعم الصاحب. يضحكني ويسليني ويشرح لي اللغة ويحكي لي عن أيام العرب ويؤدبني بأدبه ويعظني مواعظ بليغة ويربط قلبي بالله. ثم إنها لما دخلت عشر ذي الحجة وتسابق الناس في التزود من الخيرات ولم يبقَ من عمر الشيخ إلا الصفحات القليلة بين يدي، ذهبت أنظر في صداه في سجّل التاريخ، فوجدت أن الحياة ما اكتفت باحتباسه بالعمى والعزلة عن الناس وصدها عنه بالتجني وقالة السوء في حياته، حتى عادت فجعلته حبيس سوء الظنون والقول عليه بغير علم وصارت سيرته عند أهل التراجم سيرة زنديق كافر وملحد حائر، فتوجّعت لذلك أشد الألم، وجعلت من قُرباتي في تلك الأيام الفاضلات الذب عن عرض مسلم لا أشك في أنه إن لم يكن ولياً لله فبسيرة الأولياء عاش، وعارفًا بالله نبذ الدنيا وقد أتته تسعى، وتفرغ لذكر الله وتسبيحه وتمجيده وقضاء حقه عليه. وجعلت وكدي في جمع الفِرى التي رُمي بها والكشف عن باطلها وزورها، وأدخر جهدي ليوم لا تُظلم في نفسٌ شيئا والأمر يومئذ لله.
وأنا عارضٌ عليك طرفاً من سيرة الشيخ أولاً، ثم أعطف بذكره في تراجم أهل العلم والأدب مرتباً ذلك تاريخياً ليظهر لك التزيّد في رواية بعضهم واضطراب أمرهم، وأحلُّ لك بعون الله ما انعقد من أمره وغاب عن ناقده. وأنا أسير بك فيها إن شاء الله سير المتعجّل القاصد للاختصار من غير إخلال أو قفز إلى نتيجة لم أقدّم لك مقدماتها.
سيرة المعري
نسبه:
هو أحمد بن عبد الله بن سليمان بن محمد بن سليمان بن أحمد بن سليمان بن داود بن المطهر بن زياد بن ربيعة بن الحارث بن ربيعة بن أرقم بن أنور بن أسحم بن النعمان بن عدي بن عبدغطفان بن عمرو بن بريح بن جذيمة أو خزيمة بن تيم اللات أو تيم الله كلاهما قيل، وجذيمة أو أبوه هو تنوخ الذي يُنسب إليه أبو العلاء بالتنوخي، وكانت عدة قبائل من قضاعة نزلت البحرين وتجمعت فيها فسميت تنوخًا والتنوخ في اللغة الإقامة هذا ما قاله أهل التراجم في عن نسبه.
مولده:
ولد سنة 363 / 973 طفلاً سليماً من العلل حتى جُدّر (أصابه الجدري) وهو بن أربع سنين فأظلمت معرة النعمان وإليها يُنسب فإن شئت في النسبة قلت المعرّي فتكون كسائر الناس، وإن شئت الإغراب قل المَعرَّنُمِي، فقد ذكر السمعاني في الأنساب عن أبي نصر الرامشي أن النسبة الصحيحة لمعرة النعمان هي معرَّنُمِي لوجود معرّة أخرى بالشام وهي معرّة مَصْرين ويُنسب إليها معرَّمَصْي.
بيئته:
نشأ في بيت علم وقضاء وقد ذكر منهم ياقوت عددَا يشير بذلك إلى شرف ذلك البيت ومكانته “وكان من أبائه وأعمامه ومن تقدمه وتأخر عنه من ولد أبيه ونسله فضلاءُ وقضاةٌ وشعراء، أنا ذاكرٌ منهم من حضرني لتعرف نسبه في العلم كما عرفتَ ما أُعطيه من الفهم”.
حافظته:
قرأ على أبيه اللغة وأخذ عن علماء الشام، وروى عنهم وأكثر علمه ناله من المطالعة (بواسطة لعماه)، وقد نبت في العلم نموّ الخيزران فقد وهبه الله حافظة عجيبة يعلق فيها كل شيء، وربما حفظ ما لا يفهم وهذا أعجب ما يكون في الحفظ. وقد روى أبوزكريا التبريزي وكان يقرأ عليه فدخل المسجد رجلُ عليه أثر السفر من بلاد ما وراء النهر، فرآه التبريزيّ فحنّ لمحادثته وسؤاله عن الديار، وسمع الشيخ أثر الحنين في صوت التبريزي وهو يقرأ عليه، فسأله عن حاله فأخبره فقال له قم إليه، ففعل، وأخذا يتراطنان برطانتهما وأبو العلاء مطرقٌ يستمع.. فلما انتهى أبو زكريا من استجواب الوارد وأحاديث الأشواق، انصرف إلى شيخه ليكمل درسه، فقال الشيخ: ما هذه اللغة التي تحدثتما بها؟ فقال له الأذربيجية لسان أهل أذربيجان، فقال ما عرفتها ولكني حفظتُ كلامكما فإن شئت أعدته عليه، فشاءَ التبريزي، وأعاده أبو العلاء كما كان بتمامه، فجلس الطالب وهو يهز رأسه عجبًا من حفظ أستاذه. ولهذه الحافظة الصمغيّة أخبار كثيرة في كتب التراجم تجدها في مظانها.
زيارته بغداد:
نشأ أبو العلاء ولا شغل له إلا العلم، فلما شبَّ وجاز الثلاثين حدثته نفسه بزيارة عاصمة الثقافة الإسلامية، فتوجه لبغداد ودخلها عام 399 وبقي فيها عامًا وسبعة أشهر ثم خرج عائداً للمعرة (ولزيارته بغداد وخروجه منها شأن خطير في مسيرة أبي العلاء لم يفطن إليه أحدٌ ممن كتب عنه فيما أعلم، ويأتيك بيانه إن شاء الله) فجاء المعرّة وقد ماتت أمه فاعتزل الناس وانطوى في بيته وزهد في الدنيا وعاش على ما تنبته الأرض وترك أكل ما سواه من الحيوان وما ينتج عنه من ألبان وأعسال وبيض وتفرغ للعبادة وسُمي رهين المحبسين (بفقدانه البصر ولزوم بيته) وأخذ يملي ويؤلف حتى جاءه نداء الحق فلحق بربه سنة 449.
الاختلاف في عقيدته:
هذا مسار حياته عند جميع من ترجم له، ثم هم يزيدون أو ينقصون في ذكر طرفاً من أخباره في العلم والفهم رميه بالعظائم من الكفر والزندقة والإلحاد ثم الإنابة والتوبة عند بعضهم وكل ذلك بعيد عن التحقيق والإنصاف ولا ينسجم مع حياة الشيخ وآثاره ويجعلها لغزًا مبهمًا غير مفهوم.
المعري في تراجم القدمـاء
وفيما يلي ذكر ما رُمي به في التراجم مما وقفنا عليه مرتبةً على التاريخ:
الثعالبي ت 429هـ/1037م في كتابه يتيمة الدهر لا نجد عنده شيئًا يرمي به أبا العلاء سوى ما انتهى إليه من خبر: “شاعر أعمى ظريف يلعب بالشطرنج والنرد ويدخل في كل فن من الجد والهزل“.
الخطيب البغدادي ت 463هـ/1070م في كتابه تاريخ بغداد يذكر في ترجمته: “كان يتزّهد ولا يأكل اللحم ويلبس الخشن من الثياب”…..
“صنّف في اللغة وعارضَ سورًا من القرآن.. وحكي عنه حكايات في اعتقاده حتى رماه بعض الناس بالإلحاد”.
الباخرزي ت 467هـ/1074م في دمية القصر، يبدأ ترجمته بأسلوب مشرق: “أبو العلاء التنوخي.. ضرير ماله في الأدب ضريب ومكفوف في قميص الفضل ملفوف، ومحجوبٌ خصمه الألد محجوج، وقد طال في ظلال الإسلام آناؤه، لكن ربما رشح بالإلحاد إناؤه، وعندنا خبر بصره والله أعلم ببصيرته والمطلع على سريرته، وإنما تحدثت الألسن بإساءته لكتابه الذي زعموا أنه عارض به القرآن وعنونه بالفصول والغايات ومحاذات السور والآيات”.
ابن الأنباري أبو البركات ت577هـ/1181م في نزهة الألباب في طبقات البلغاء جاء بشيء جديد،قال: “ويحكى أنه كان برهمياً”.
“ويُحكى عنه كلماتٌ وأشعارٌ موهمةٌ توجب التهمة في حقه”.
ابن الجوزي ت 597هـ/1200م في كتابه المنتظم، نجد عنده مدرجات لا عهد لنا بها فيقول في قضية زهده: “وبقي 45 سنة لا يأكل اللحم ولا البيض ولا اللبن ويحرّم إيذاء الحيوان ويلبس الخشن من الثياب”.
إن قوله: “يحرّم إيذاء الحيوان”، زيادة من ابن الجوزي رحمه الله، يريد أن يحل بها ما أشكل عليه من فعل الشيخ بتركه أكل اللحم وسيأتي دفع هاته الفرية من كلام الشيخ نفسه. ويضيف ابن الجوزي في قضية زهد المعري: “وكان ظاهر أمره يدل على أنه يميل لمذهب البراهمة فإنهم لا يرون ذبح الحيوان ويجحدون الرسل”.
ويكمل أبو الفرج بن الجوزي: “وكان ظاهر أمره يدل على أنه يميل لمذهب البراهمة فإنهم لا يرون ذبح الحيوان ويجحدون الرسل”.
وذكر أبيات توجب تكفيره:
إِذَا كَـانَ لَا يَحْظَـى بِرِزْقِــكَ عَاقِـــلٌ وَتَرْزُقُ مَجْنُــونًا وَتَرْزُقُ أَحْمَــــقَا
فَلَا ذَنْبَ يَا رَبَّ السَّــمَاءِ عَلَى امْرِئٍ رَأَى مِنْكَ مَا لَا يَشْتَهِي فَتَزَنْدَقَــا
وقوله:
لَا تَحْسَبْ مَقَالَ الرُّسْلِ حَقًّا وَلَكِنْ قَوْلُ زُورٍ سَــطَّرُوهُ
فَكَانَ النَّاسُ فِي عَيْشٍ رَغِيدٍ فَجَاءُوا بِالْمُحَالِ فَكَدَّرُوهُ
وقوله:
كونٌ يُرى وفسادٌ جاء يتبعه الله أعلم مَا فِي خلقه عَبث
وإن يؤذن بلالُ لابن آمنةٍ فبعده لسجاحٍ ما دعا شَبَثً
وغيرها من الأبيات. قلتُ وهذه الأبيات ليست في ديواني أبي العلاء سقط الزند ولزوم مالا يلزم وهو من المنحول عليه.
القفطي ت 646هـ/1248م في إنباه الرواة، وقد أطال في ترجمة أبي العلاء وجاء بأشياء جديدة منها: خبر دير الفاروس وأن أبا العلاء اجتاز به واجتمع براهب شككه في دينه وقد تولّى محمود شاكر رحمه الله نقد هذه الرواية في كتابه أباطيل وأسمار فلا مزيد على ما ذكره وانفرد بخبر جديد آخر في شأن مقدمه لبغداد لم أجده عند غيره وهو :
“ولما دخل العراق قصد إلى أكابرها الإعانة بجاههم على بلوغ أغراضه من كف من تطرق أذاه إليه في أمر وقفه، فلم يجد منهم ذلك”.
وهذا مخالف لجميع ما كتبه أبو العلاء من شعر ونثر في ذكر سفره لبغداد وخروجه منها! وفي ترجمة القفطي خبر رؤيا رآها القفطي في أبي العلاء يعاتبه فيها على الوقيعة فيه يقول: “كنت في سن الصبا وذلك في حدود سنة 585 / 1189 أقدح في اعتقاد أبي العلاء لما أراه من ظواهر شعره وما يُنشد في محافل الطلب، فرأيت ليلة في النوم كأنني قد حصلت في مسجد كبير … وفيه رجل مكفوف سمين متوسط البياض ورأسه مائل إلى جهة كتفه الأيسر وهو مستقبل القبلة في جلسته وإلى جانبه طفل، وكأنني فهمت أنه قائده .. ثم قال في أثناء كلامه مخاطبًا لي: ما الذي يحملك على الوقيعة في ديني؟ ومايدريك لعل الله غفر لي؟ فخجلت من قوله وسألت عنه من إلى جانبي فقال لي أحدهم هذا أبو العلاء المعري، فابتسمت متعجبًا للرؤيا واستغفرت الله لي وله ولم أعد للكلام في حقه إلا بالخير”.
والطريف أن القفطي لم يلتزم بقوله، فحوت ترجمته قدحًا منه: “وصنّف كتابًا في اللغة وعارض سورًا من القرآن”. هكذا. وانساق لمن رغبه في نقل ما ذُم به المعري فاستجاب وساق ما ذكره غرس النعمة محمد بن الرئيس هلال الصابي. وفيه يقول: “ونحن نذكر لك طرفاً ممّا بلغنا من شعره ليُعلم صحة ما يحكى عنه من إلحاده فمن ذلك قوله:
صَرْفُ الزَّمَـــانِ مُفَرِّقُ الْإِلْفَيْــنِ فَاحْكُمْ إِلَهِي بَيْنَ ذاك وبيني
أَنَهَيْتَ عن قتْل النُّفُوس تعمُّدًا وبَعَثْتَ أنتَ لقَبْضــــها مَلَكَيْنِ
وَزَعْمتَ أنّ لهـا مَعَـــاداً ثانيــــا ما كان أغنــــاها عن الحالَيْنِ
وساق أبياتاً أخرى منها منحول، كما هما حال هاته الأبيات التي ابتدأ بها وبعضها من شعر أبي العلاء. وسأبيّن لكَ مأخذاً لطيفاً اتخذه الطاعنون على أبي العلاء فيما يأتي.
ياقوت الحموي ت 626هـ/1228م في إرشاد الأريب، ترجمته حافلة وفيها من غمز عقيدة الشيخ شيء كثير وسبٌ صريح وفيها أخبارٌ تبرئه والذي يعنينا من ذلك رأي ياقوت لا نقله فحسب. قال ياقوت: “وكان متهمًا في دينه، يرى رأي البراهمة، لا يرى إفساد الصورة ولا يأكل لحمًا ولا يؤمن بالرسل والبعث والنشور.” وينقل ياقوت من الأخبار ما يخالف نصُها، غرض ياقوت من سوقها فروى عن عبد السلام القزويني وكان أحد رؤوس المعتزلة: “قال لي المعري: لم أهجُ أحدًا قط، فقلت له: صدقت إلا الأنبياء! فتغيّر وجهه”.
يريد بها الجواب المسكت، ولكن في نهاية الخبر دلالة على أن الزنديق والملحد في زعمهم يتغير وجهه إذا ذكروا له أنه يهجو الأنبياء والرسل! وهذا غريب. ولكن لم يلبث ياقوت حتى عاد لأخبار عبدالسلام القزويني مع شيخ المعرة فكشف لنا من حيث لا يعلم تحامل شيخ المعتزلة على أبي العلاء، قال أبو يوسف القزويني:
“قال لي ملحد المعرة.. ماسمعت في أمر الحسين بن علي -رضي الله عنهما- شيئًا يجب أن يحفظ، فقلت له قد قال سواديٌّ من أهل بلادنا أبياتاً لا يقول مثلها تنوخ جدك الأكبر”.
فحمدنا لياقوت سوقه لهذا الخبر المهم الذي يكشف لنا نوعًا ممن اُبتلي بهم الشيخ في عصره.
ياقوت: “ومن شعره الدال على سوء عقيدته في لزوم مالايلزم”:
أَلا فَاِنعَموا وَاِحذَروا في الحَياةِ مُلِمّاً يُسَمّى مُزيلَ النَعَـم
أَتَـوكُـم بِإِقبالِهِــم وَالحُســـــامِ فَشَدَّ بِهِ زاعِـــمٌ ما زَعَــم
تَلَــوا باطِـــلاً وَجَلَـــوا صــارِمــاً وَقالوا صَدَقنـا فَقُلتُــم نَعَم
زَخـــارِفُ ما ثَبَتَت فــي الــعُقو لِ عَمّى عَلَيكُم بِهِنَّ المُعَم
“وعلّق ياقوت بعد رواية بيتي:
تَناقُضٌ ما لنا إِلّا السُـــكوتُ لَهُ وَأَن نَعــوذَ بِمَولانا مِنَ النــــارِ
يَدٌ بِخَمسِ مِئينَ عَسجَدٍ فُدِيَت ما بالُها قُطِعَت في رُبعِ دينار
كان المعري حمارًا لا يفقه شيئا”.
ابن الأثير ت 630هـ/1232م في كتابه الكامل: “وعلمه أشهر من أن يُذكر إلا أن أكثر الناس يرمونه بالزندقةِ وفي شعره ما يدلُ على هذا”.
سبط ابن الجوزي ت 654هـ/1256م في مرآة الزمان سيرة جده في رأيه في الشيخ: “وأقام خمساً وأربعين سنة لا يأكل اللحم ولا البيض ولا اللبن ويحرم إيلام الحيوان ويقتصر على ما تنبت الأرض ويلبس الخشنَ من الثياب، وأقواله تدل على اختلال عقيدته”.
ابن خلكان ت 681هـ/1282م ونجد في كتابه وفيات الأعيان محاولة لربط أبي العلاء بمذهب الحكماء من الفلاسفة بدل التبرهم ونسبته لديانة المجوس: “ومكث مدة خمس وأربعين سنة لا يأكل اللحم تديّناً، لأنه كان يرى رأي الحكماء المتقدمين، وهم لا يأكلونه، كي لا يذبحوا الحيوان ففيه تعذيب له، وهم لا يرون الإيلام مطلقًا في جميع الحيوان”.
“وبلغني أنه أوصى أن يكتب على قبره: هذا جناهُ أبيْ عليَّ وما جنيتُ على أحدْ ، وهو أيضاً متعلقُ باعتقاد الحكماء فإنهم يقولون: إيجاد الولد وإخراجه إلى هذا العالم جنايةٌ عليه لأنه يتعرض للحوادث والآفات”.
أبو الفداء ت 732هـ/1331م في المختصر في أخبار البشر، قال: “ونُقلت عنه أشعار وأقوال عُلم بها فساد عقيدته، ونُسب إلى التمذهب بمذهب الهنود؛ لتركه أكل اللحم خمسا وأربعين سنة وكذلك البيض واللبن، وكان يحرّم إيلام الحيوان. وله مصنفات كثيره أكثرها ركيكة فهجرت لذلك. وكان يظهر الكفر ويزعم أن لقوله باطناً وأنه مسلم في الباطن. فمن شعره المؤذن بفساد عقيدته قوله:
عجبت لكسرى وأشـــياعه وغسل الوجوه ببول البقـــر
وقول النصارى إله يضـــام ويظلــــم حيــــا ولا ينتصـــر
وقوم أتوا من أقاصي البلد لرمي الجمــار ولثم الحجــر
فوا عجبــــاً من مقالاتهــم أيعمى عن الحق كل البشر
قلتُ: ليست في ديوانيه وهي منحولة عليه.
الذهبي ت 748هـ/1331م في كتابه تاريخ الإسلام: فقال: “وله رسالة الغفران في مجلد وقد احتوت على مزدكةٍ واستخفاف وفيها أدب كثير”. ثم نقل أبياتاً منحولة على أبي العلاء ابتدأ نقله بها. وقد أكثر الذهبي في النقل عن أبي الطاهر السلَفي مما رواه من ذم ومدح لأبي العلاء ثم ختم برأيه فيه: “الذهبي بسنده عن السلفي قال: “سمعت أبا زكريا التبريزي: قال لما قرأت على أبي العلاء بالمعرة قوله: تناقضُ مالنا إلا السكوت له ** وأن نعوذ بمولانا من النار، سألته عن معناه فقال: هذا مثل قول الفقهاء: عبادة لا يُعقل معناها. قلتُ (الذهبي): لو أراد ذلك لقال: تعبّدٌ مالنا إلا السكوت له” ولما اعترض على الله في البيت الثاني.
قلتُ هذا تعنّت من الذهبي ولو قال الشاعر ما يشتهيه المحدّث لم يعد شاعرًا.
قال السلَفيّ: “إن قال هذا الشعر معتقداً لمعناه، فالنار مأواه وليس له في الإسلام نصيب. هذا إلى ما يحكى عنه في كتاب الفصول والغايات وكأنه معارضةٌ منه للسورِ والآيات. فقيل له أين هذا من القرآن؟ قال لم تصقله المحاريب أربعمئة سنة”.
وقال: “من عجيب رأي أبي العلاء تركه كل مأكول لا تنبته الأرض شفقة بزعمه على الحيوانات، حتى نُسب إلى التبرهم وأنه يرى رأي البراهمة في إثبات الصانع وإنكار الرسل وتحريم الحيوانات وإيذائها حتى الحيات والعقارب”.
الذهبي: “وفي شعره ما يدل على غير هذا المذهب. وإن كان لا يستقر به قرار ولا يبقى على قانون واحد بل يجري مع القافية إذا حصلت كما تجيء ليس كما يجب”.
“الذهبي: “وفي الجملة فكان من أهل الفضل الوافر والأدب الباهر والمعرفة بالنسب وأيام العرب قرأ القرآن بروايات وسمع الحديث بالشام على ثقاتٍ وله في التوحيد وإثبات النبوات، وما يحض على الزهد وإحياء طرق الفتوة والمروّة شعرُ كثير. والمشكل منه فله على زعمه تفسير… والذي يظهر أن الرجل مات متحيّرًا ولم يجزم بدينٍ من الأديان نسأل الله أن يحفظ علينا إيماننا بكرمه”.
ابن الوردي ت 749هـ/1348م في كتابه تتمة المختصر من أخبار البشر، فقد انتصر له بعض الانتصار ثم عاد فقال:
“رأيت التبريّ منه أسلم، لمّا وقف على كتابيه لزوم مالا يلزم واستغفر واستغفري”.
ابن فضل الله العمري ت 749هـ/1348م في كتابه مسالك الأبصار في ممالك الأمصار يفتتح بمقدمة نديّة:
“رفض الدنيا وما سلم، وفرض غاياتها فعمل بما علم.، وتداوى باليأس من مطالعها ودارى الناس بترك حظه لهم، ومع هذا ظُلم…”… “وترك أكل لحوم الحيوان وما يجري مجراها من الأعسال والألبان، ومال في هذا إلى رأي الحكماء. وقال بمذهب البراهمة في تجنب إراقة الدماء”. مع ثناء كثير عنه. “والناس فيه بين مكفّر وبين معتقدٍ له الولاية، وما بين بين هذه الغاية”.
الصفدي ت 764هـ/1362م في كتابه الوافي بالوفيات:
“والناس مختلفون في أمره و الأكثرون على إكفاره وإلحاده”.
“قلت: أما الموضوع على لسانه فلعله لا يخفى على من له لب، وأما الأشياء التي دوّنها وقال بها في لزوم ما لا يلزم وفي استغفر واستغفري فما فيه حيلة وهو كثير. فيه ما فيه من القول بالتعطيل والاستخفاف بالنبوّات ويحتمل أنه ارعوى وتاب بعد ذلك كله”.
“وحُكي لي عن الشيخ جمال الدين الزملكاني رحمه الله أنه قال في حقه: هو جوهرةٌ جاءت إلى الوجود وذهبت”.
ونقل:
“كان الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد يقول في أبي العلاء أنه في حيرة”.
“ومكث مدة خمس وأربعين سنة لا يأكل اللحم تديّنا منه ولا ما تولّد من الحيوان رحمةً للحيوان وخوفًا من إزهاق النفوس”.
“وكان أكله العدس وحلاوته التين ولباسه القطن وفراشه اللُّباد وحصيره بَرْدِيّه، وشعره كثير إلى الغاية، وأحسنه سقط الزند”.
اليافعي ت 768هـ/1366م في كتابه مرآة الجنان، علق على امتناعه من أكل اللحم بقوله:
“وهو خلاف ماجاءت به الأنبياء والشرائع، ودل على حله الإجماع ونصوص الآيات القواطع”.
ابن كثير ت 774هـ/1372م في كتابه البداية والنهاية، كال له المذمات كيلاً:
“دخل بغداد.. ثم خرج منها طريداً منهزماً لأنه سأل سؤالاً بشعر، يدل على قلة دينه وعلمه وعقله، وقال تناقضُ مالنا إلا السكوت البيتين. وهذا من إفكه.. ولما عزم الفقهاء على أخذه بهذا وأمثاله هرب ورجع إلى بلده ولزم منزله فكان لا يخرج منه”.
وتعليقاً على (هذا ما جناه أبي عليّ وما جنيت على أحد) :
وهذا يدل على أنه لم يتغير عن اعتقاده – وهو ما يعتقده الحكماء- إلى آخر الوقت، وأنه لم يقلع عن ذلك كما ذكره بعضهم. والله أعلم بظواهر الأمور وبواطنها”.
ابن الشِحنة ت 815هـ/1412م في كتابه روضة المناظر في أخبار الأوائل والأواخر:
“وهو فاسد العقيدة يُظهر الكفر ويزعم أن له باطنًا وأنه مسلم في الباطن. وأشعاره دالة على كفره”.
ابن حجر ت 852هـ/1448م في كتابه لسان الميزان فقد نقل لمن قبله وقال:
“ومن شعره المؤذن بانحلال”.
العيني ت 855هـ/1451م في كتابه عقد الجمان:
“ولم يكن زكياً ولكن ذكياً”.
ابن تغري بردي 874هـ/1469م في كتابه النجوم الزاهرة يقول:
“وقد اختلف الناس في أبي العلاء المذكور فمن الناس من جعله زنديقاً وهم الأكثر، ومن الناس من أوّل كلامه ودفع عنه، ومما يستشهد عليه من المقالة الأولى قوله:
أُمـورٌ تَســتَخِفُّ بِها حُــلـومٌ وَما يَدري الفَتى لِمَنِ الثُبورُ
كِتابُ مُحَمَّدٍ وَكِتابُ موسى وَإِنجيــلُ اِبنِ مَريَـمَ وَالزَبــورُ
السيوطي ت 911هـ/1505م في كتابه بغية الوعاة عرض مذاهب القوم وأشار إلى أبيات تدل على حسن اعتقاده.
العباسي ت 963هـ/1555م في كتابه معاهد التنصيص. توقف وقال بعد ذكر أبيات ظاهرها التعارض في أمر البعث:
“وهذا تناقض منه وإلى الله ترجع الأمور”.
هذا ما وقفنا عليه من التراجم قد عرضناه لك ثم نشرع بعد ذلك في حل هذا التعارض والإلغاز في حياة أبي العلاء ونثبت لك صلاح الرجل وسلامة دينه وحسن سيرته وسبب التقول عليه وما انتهينا إليه بعد بحث وتقصٍ والله من وراء القصد.
القسم الثاني
غـريــت بــذمّــي أمــةٌ وبـحـمـد خـالقـهـا غريت
وعبدت ربي ما استطعـ ت ومــن بــريــتــه بـريـت
قد تقدّم في مقالنا السابق ذكر أبي العلاء في كتب التراجم والرجال، ووقفنا بك على أراء القوم فيه وغلبة سوء الظن في شأنه حتى تلخص لك القول في إكفاره وزندقته أو الوقوف به على الحيرة والارتباك في الاعتقاد، فإن لم تطالعه بعدُ فابدأ به ثم عُد إلى هذا حتى تتم الفائدة.
ما خبرُ هذا الرجل “شاعر أعمى ظريف يلعب بالشطرنج والنرد ويدخل في كل فن من الجد والهزل” كما قال عنه الثعالبي وكيف تحولت حاله إلى الاحتباس في داره وذمّ الدنيا وأهلها والتخفف من زينتها وبهارجها والانشغال بتسبيح الله وتمجيده ولزوم الصوم؟
لقد نظرت في كثيرٍ مما كُتب عن الشيخ ورغبت في الاستقصاء ولم أجد عند أحد -خاصة- المتقدمين من اشتغل بهذا السؤال وجوابه؟ ما الذي حصل لذلك الشاب المتطلع للمعرفة والمزاحم للطلاب في حِلَق العلم والمساجد والظريف الذي يدخل في كل فنون الهزل والجد؟! كيف انطفأت في نفسه تلك المعاني وازدحم صدره بمعاني اليأس من هذه الدنيا وهذا الناس ولم يبلغ بعدُ أشده ولم يبلغ أربعين سنة؟
انقلاب المعري
إن مفتاح هذا التحوّل الغريب في مدينة السلام -التي ضاعت مفاتيحها، أوّاه يا بغداد!-، فلنقصد بغداد ولننظر في خبر زيارة الشيخ لها، وأسباب زيارته وخروجه منها، فكل من ترجم له يذكر خروجه من بغداد ويعقبه بذكر ارتهانه في محبسه ولزوم بيته، وقد كتب رسالة إلى أهل معرة النعمان ورسالة أخرى إلى خاله يحدثه ويشرح فيها بعض ما حصل له في بغداد وخروجه منها واختياره للعودة لوطنه والتخفف من الناس وزياراتهم. ولكنه كان في ذلك كله يمجمج بالكلام ولا يصرّح، ولا يطلعنا على حقيقة الأمر وهذا الانقلاب في حياته. فدوننا مجال الاجتهاد وتقليب النصوص في الأذهان لفهم حقيقة ما حدث، ولسنا نثق بكثير مما رواه القومُ ففيه تضاربٌ شديد، ولكن نعتمد على ما يحدث به الشيخ عن نفسه أولاً، ثم رواية من حضره وزاره، ثم نعتمد على ما اتسق مع هذين من الرواية فيخرج لنا من ذلك كله ما نطمئن إلى صوابه. فلستُ أقبل ما رواه القفطي من قوله: “ولما دخل العراق قصد إلى أكابرها الإعانة بجاههم على بلوغ أغراضه من كف من تطرق أذاه إليه في أمر وقفه، فلم يجد منهم ذلك”، وأنا أقرأ لأبي العلاء:
أنبئكم أني على العهد سالم ووجهي لمّا يبتذل بسؤال
وإني تيممت العراق لغير مـا تيمـمـه غيــــلانُ عند بلال
وفي رسالته لأهل المعرة: “وأحلف ما سافرت أستكثر من النشب ولا أتكثر بملاقاة الرجال” وهو مصدّقُ عندنا فيما يحكيه عن نفسه من غير يمين. ولا ما رواه ابن كثير من أن القوم أخرجوه وطردوه لبيتيه في حد السرقة: “تناقضٌ مالنا إلا السكوت له” ونحن نقرأ في رسائله أنه فارق بغداد وأهلها راغبون فيه وفي بقائه. كل ذلك من الرواية التي لا اعتماد لنا عليها.
سبب زيارته بغداد:
أما رحلته فلعلها كانت لعدة أسباب إن لم تجتمع فليس يخلو من بعضها؛ الابتعاد من المد الباطني في الشام القادم من الغرب وكذا للسياحة في مدينة العلم والمعرفة رغبة في جوها الثقافي ومذاكرة العلماء ومجالسة الأدباء والاطلاع على دُور الكتب، لا للطلب على الشيوخ والاستزادة من الرواية، لأننا نقرأ له قوله “ومنذ فارقت العشرين من العمر ما حدثت نفسي باجتداء العلم من عراقي ولا شآمي، وانصرفت وماء وجهي في سقاء غير سرب، لم أرق منه قطرة في طلب أدبٍ ولا مال”.
دخوله على الشريف المرتضى:
لقد لقيَ الشيخُ في بغداد أموراً زهدته فيها وفي الناس، وحنّ فيها إلى وطنه وشهد نوعاً من الجفاء والصلف، والغريب في غير أرضه تعروه رقةٌ وضعف وإن كان قُدَّ من الحجر، فكيف بأبي العلاء وله قلبٌ أرق من نسيم الفجر وروح شفيفة يؤذيها أيسر وارد، ويعلق فيها الأذى فيطبعها فترى العالم من خلاله، وهذا بيّن في سيرته وشعره وتشاؤمه لغلبة تلك الروح عليه. ونذكر لك من أخباره ما طبع نفسه وأثّر فيها ورغّبه في مفارقة بغداد، منها دخوله على الشريف المرتضى وعثوره برجل، فقال له الرجل: “من هذا الكلب؟” فقال أبو العلاء: “الكلب من لا يعرف للكلب سبعين اسماً” فهذا سفيه يتطاول على شيخ المعرةِ في مجلس وجهاء بغداد، وأبو العلاء في وطنه شيء عظيم ومهيب ومحترم، ثم يصير غريباً يتجهّمه أمثال هذا ولا ينتصر له أحد، والغريب تكسره الكلمة.
خلافه مع الشريف المرتضى حول المتنبي وطرده من المجلس:
ونبقى في مجلس الشريف المرتضى وقد كان أبو العلاء يحضر مجلسه، فدار بينهما حديث في شأن أحد العظماء في عيني أبي العلاء هو أبو الطيب المتنبي، فنال منه الشريف وانتقصه، وكان مبغضاً له، فقال أبو العلاء: “لو لم يكن لأبي الطيب إلا قصيدته لك يامنازل في القلوب منازل لكفاه”. فقال الشريف: “جروا برجل الكلب”! فأخرج ورُمي كما يُرمى المتاع. فهذا أديب وشريف ووجيه من الوجهاء يفعل بضيفه هذا الفعل.
خرج المعري من بغداد وقد نفضَ كثيراً من معاني الحياة عن قلبه بما عاشه من تجربة في المدينة الأولى للثقافة، وأول تلك المعاني الرغبة في الناس ولقائهم، فقد عالج من ضيافة البغداديين عنتاً وأذى كثيراً.
إهانة النحوي علي بن عيسى الربعي له:
ويأتي لعلي بن عيسى الربعي وكان أنحى أهل بغداد على شراسة أخلاق فيه، فيستأذن عليه أبو العلاء فيسمعه يقول: “ليصعد الإسطبل” (يعني الأعمى بلهجة أهل الشام) فيأنف من هذه المناداة وينصرف من فوره. فهذه حوادث ومهانات شنيعة لا يمكن أن تمرّ على رجل شريف ذو نسب كبير النفس من دون أن تترك في نفسه ندوباً وأثراً.
أما دُور الكتب فيبدو أن الرجل لسعة اطلاعه لم تكن على قدر آماله، فيحدثنا القفطي أنه جاء دار الكتب التي يقوم عليها عبدالسلام بن الحسين فما وجد فيها شيئًا يستغربه أو جديداً يهش له لم يقف عليه في مكتبات الشام، إلا ديوان جده تيم اللات فاستعاره منها. وما بقاء الشيخ في دار يهان فيها ولا يجد فيها غلة لنهمته المعرفية فآثر العودة إلى دياره، ووافاه عند ذلك كتاب يخبره باعتلال والدته أقرب الناس إليه وأحناهم عليه فسار إليها. وفي شعره إشارة أن منصرفه عن بغداد كان لمرض أمه وقلة ماله. وهذا اعتذار الغريب متأدباً، لأننا نجد في شعره لاحقاً يذم بغداد ويعيبها. وإذن فقد انصرف أبو العلاء عن بغداد وكانت لندن زمانه، وقد قال أحدهم في لندن زماننا، إذا مللت الحياة في لندن، فقد مللت الحياة، لأنه لا يمكن للحياة أن تعرض لك شيئاً لست تجده في لندن. فعاد الشيخ وقد ملّ الحياة.
صدمة بغداد ووفاة أمه في غيابه جعلته رهين المحبسين:
خرج المعري وقد نفضَ كثيراً من معاني الحياة عن قلبه بما عاشه من تجربةٍ في المدينة الأولى للثقافة في العالم الإسلامي، وأول تلك المعاني الرغبة في الناس ولقائهم، فقد عالج من ضيافة البغداديين عنتُا وأذى كثيراً، وأسرع الطفل في الشيخ إلى الحضن الذي طالما لجأ إليه واحتمى من صلافة الناس وجفائهم، فدخل المعرة وقد فارقت أمه الحياة وغاب ملاذه الأخير، فدخل بيته وأغلق الباب وراءه فصار رهين المحبسين.
فهذا خبر التحول في حياته كما فهمناه وانتهى إليه بحثنا، تراكم صدمات عاطفية ورحيله إلى بلد حرمته وداع أمه ولم تشفِ نهمته ولا احتفت به حق الاحتفاء وهو فريد زمانه ووحيد عصره، وفي شعره في السقط ما يبيّن لك كيف كان يرى أبو العلاء نفسه، وتلك الروح التي دخل بها بغداد وخرج بغيرها، فدونك لاميته “ألا في سبيل المجد” وداليته “أرى العنقاء تكبر أن تصادا”.
نقض الشبهات
نأتي الآن لنقض الشبهات التي دارت حول عقيدته، وما رماه به حساده ومبغضوه لنقف على تهافته وفساده، فليس يسير على نسق ولا يقوم به دليل.
اعلم سلك الله بك سبيل الرشاد، أن عصر أبي العلاء كان عصر غلبة لمذهب الباطنية وانتشار التقليد، وفي مذهب الباطنية انحراف عن العقل ومجافاة للنقد والتعويل كل التعويل على علم الباطن وما يقوله الإمام، وإن شئت أن تستزيد فانظر فيما يذكره ابن الأثير عن عصر أبي العلاء في تاريخه 363-449 ونقل طرفًا منه مارون عبود في زوبعة العصور، ولكن شيخ الموارنة أراد أن يجتهد ويحل لغز أبي العلاء فجاء شططًا، وقال بفاطميته، وهذا القول يشبه التبولة بالسكّر، صنف جديد ولكنه عن التجريب فاسد. وعلى كل حال فلا سبيل لفهم أبي العلاء مع إغفال عصره وغلبة مذهب الباطنية على الحياة السياسية، ففي استحضار ذلك الجو كشف لدعوته إلى العقل وإعلاء شأنه ونبذه للتقليد ومحاربته له، فإن اتضح لك هذا المعنى فاستحضره في قراءتك للشيخ فأنا أناولك المصباح ولا أسير معك كل السير.
وقد استعرضت لك تراجم القوم فوجدت تهمهم تدور على ثلاثة أمور: معارضته للقرآن، ومذهبه في لحم الحيوان، وما زعموه من ضلالاته في شعره، وهذا أوان نقضه بعون الله.
لو شئت أن أستكثر لقصصت عليك ما رواه السلَفي عن القاضي أبي الفتح من قصة تحتوي على غرض تعظيم الشيخ لكتاب الله وكلامه، ولكن من شرطنا أن نكتفي بكلام الشيخ أو من حضره من غير شبهة تكذّب أو زيادة، وأول ما نبدأ به دعوى معارضته للقرآن في كتابه الفصول والغايات، وقد عبث به بعنوانه بعض الحاسدون فأضافوا في العنوان “ومحاذات السور والآيات” وهذا كذب وبهتان خالص، فليس في ثبت كتب الشيخ هذه الزيادة وإنما هو الفصول والغايات فحسب، وقد ورد في بعض المواضع زيادة في تمجيد الله والمواعظ، وهي زيادة من محب ينفي بها زيادة من حاسد. هذا عنوانه وأما محتواه فهو كتاب بين يد الناس، وحسبك من دعوى تبطل بفتح الكتاب ومطالعته، فالشيخ ينص أنه أراد به تمجيد الله عز وجل ونشر المواعظ فيه والأخبار وجعله مرتباً على حروف المعجم وهو نمط جديد في التأليف لم يُسبق إليه. وتجده يستعين الله في بدء كتابه ويدعوه فيقول: “علم ربنا ما علم، أني الفت الكلم، آمل رضاه المسلم، واتقي سخطه المؤلم، فهب لي ما أبلغ به رضاك من الكلم والمعاني الغراب” فأعجب من ملحد مارق (زعموا) يطلب من ربه العون والتوفيق في مستهل معارضته لكتابه الكريم!
رأيه في إعجاز القرآن:
وإن شئت معرفة رأي الشيخ في إعجاز القرآن فدونك ما دوّنه في رسالة الغفران حيث يقول “وأجمع ملحد ومهتد، وناكب عن المحجة ومقتد، أن هذا الكتاب الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم كتاب بهر بالإعجاز، ولَقِيَ عدوَّه بالإرجاز، ما حُذِيَ على مثال، ولا أشبه غريب الأمثال، ما هو من القصيد الموزون، ولا الرجز من سهل وحزون، ولا شاكل خطابة العرب، ولا سجع الكهنة ذوي الأرب، وجاء كالشمس اللائحة، نورا لِلمُسِرَّة والبائحة، لو فهمه الهضب الراكد لتصدع، أو الوعول المُعْصِمَة لَرَاقَ الفادرة والصَّدَع: “وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون”.
فهل يبقى بعد هذا مكانٌ لهذه الفرية الصلعاء؟! معاذ لله.
سبب تركه أكل اللحوم:
لننظر في مذهبه في الحيوان وأكل لحمه فقد اضطرب فيه القوم وحاروا حيرةً شديدة، فقد وجدناهم يقولون إنه تركه زهداً ورحمة ابتداءً، ثم صار هذا الترك والزهد “تحريمًا” عند بعضهم ممن لم ينصف الشيخ، وتلى ذلك “التحريم” محاولة لنسبة الشيخ إلى التبرهم والمجوسية ثم إلى مذهب الفلاسفة والحكماء، فمتى ساء ظن قومٍ برجل اتسع المجال في تأويل أفعاله وحمل الفعل الحسن على القبح وقلب المدائح إلى مذام والله المستعان.
وقد نقل ياقوت مراسلات مهمة بين الشيخ وبين أبي النصر هبة الله بن موسى في شأن امتناعه عن أكل اللحم، وكان بيان الشيخ جلياً في أنه يقرر إباحته وإنما هو يتركه زهداً وتقرباً إلى الله، وهل الزهد إلا في المباح؟!
ولكن ما أسرع سيء الظن في عرض خصمه. ولو شئنا أن نحدثك عن علة امتناع المجوس أكل اللحوم وسر ذلك في مذهبهم ثم عطفنا بذكر كلامٍ لأبي العلاء في أمور متصلة به كشأن تناسخ الأرواح وتندره بها، أو مباينة أبي العلاء لطرائق الفلاسفة وما قاله في أشعاره من ذم الطريقتين لطال الأمر، ولكن عهدي إليك في هذين المقالين عن الشيخ ألا أمدّ لك من ذكره مائدةً وإنما أصنع لك ساندويتشاً.
وقد أحسن ابن الوردي في التقاطة معنى لطيف حين ساق مراثي الشيخ فقال: “رثاه تلميذه أبو الحسن علي بن همام بقوله:
إن كنت لم تُرِق الدماء زهادةً فلقد أرقت اليوم من جفني دما
قلتُ: وقول تلميذه لم ترق الدماء زهادة يدفع قول من قال إنه لم يرقها فلسفة ونسبه إلى رأي الحكماء، وتلميذه أعرف به ممن هو غريب يرجمه بالغيب. فهاتان شبهتان ثبت لنا فسادها من كلام الشيخ ومن سيرته وأنها من مقالة الحاسدين أو من غلّب سوء الظن ولم يتحر الإنصاف.
ثم نأتي لشعره وفيه مجالٌ واسعٌ لإساءة الظن والرجم بالغيب والكذب عليه والوضع على لسانه، ونحن نعرض عليك ما يعينك على السير فيه سيراً مقتصداً من دون أن تستخفك الألفاظ وتغيب عنك مراميها. فاعلم هُديت لحسن الفهم أن شعر الشيخ الموهم على ثلاثة ضروب:
ضربٌ منحول لم يقله الشيخ ولا تحركت به شفتاه، وضربٌ تم تحويره وإساءة فهمه، وضربٌ محتمل التأويل ولا يوجب تهمةً في حقه.
وفيما يلي بيانها.
الشعر المنحول:
أما المنحول فهو كثير وأكثره كفرٌ صراح، فيه تطاول على الذات العليّة وجحود للرسالات، وإنكار لليوم الآخر ولا وجود له في ديوانيه وإنما هو من عمل الحسّاد والمبطنين سوءاً للشيخ.
قال أبو اليسر المعري: “وكان رضي الله عنه يُرمى من أهل الحسد بالتعطيل وتعمل تلاميذه وغيرهم على لسانه الأشعار يضمنونها أقاويل الملحدة، قصدًا لهلاكه، وإيثارًا لإتلاف نفسه”.
ومن كلام الشيخ في التراجم كما عند الذهبي وغيره أنه سئل عن بعض ما يُرمى به فقال “حسدوني وكذبوا عليّ“. ومن هذا الشعر المنحول، قولهم:
لَا تَحْسَبْ مَقَالَ الرُّسْلِ حَقًّا وَلَكِنْ قَوْلُ زُورٍ سَــطَّرُوهُ
فَكَانَ النَّاسُ فِي عَيْشٍ رَغِيدٍ فَجَاءُوا بِالْمُحَالِ فَكَدَّرُوهُ
وقولهم:
كونٌ يُرى وفسادٌ جاء يتبعه الله أعلم مَا فِي خلقه عَبث
وإن يؤذن بلالُ لابن آمنةٍ فبعده لسجاحٍ ما دعا شَبَثً
وقولهم:
صَرْفُ الزَّمَـــانِ مُفَرِّقُ الْإِلْفَيْــنِ فَاحْكُمْ إِلَهِي بَيْنَ ذاك وبيني
أَنَهَيْتَ عن قتْل النُّفُوس تعمُّدًا وبَعَثْتَ أنتَ لقَبْضــــها مَلَكَيْنِ
وَزَعْمتَ أنّ لهـا مَعَـــاداً ثانيــــا ما كان أغنــــاها عن الحالَيْنِ
وغيرها من الأبيات التي فيها من الاستخفاف بالذات الإلهية والرسالات من صريح القول الذي لا يحتمل التأويل. وقد وقفنا على سلوك غريب عند أكثر مترجميه ممن وقعوا فيه بالتهم الباطلة وهي تقديمهم للشعر المنحول في استدلالهم على سوء اعتقاده وافتتاحهم به، تجد ذلك عند ابن الجوزي وعند غرس النعمة وعنهما نقل أكثر المترجمين، فأنت إذا ابتدأت بأبيات الكفر الصريح لم تلبث أن تحمل كل بيت يحتمل معنيين حسنَا وآخر قبيحًا على المعنى القبيح والقادح في اعتقاد أبي العلاء. ولست أزعم أن القوم فعلوه على تعمدٍ منهم وخبث قصد -حاشاهم- ولكنهم لما لم يقفوا على جميع أحوال الرجل ولم يتحروا الإنصاف فيه ساقوا كلّ ما يدلل على سوء اعتقادهم فيه فتقدّمت الأبيات المنحولة اتفاقًا لما فيها من أقوالٍ رهيبة تنفر منها قلوب المؤمنين وتسوق سائر الأبيات التي تليها إلى معان فاسدة.
الشعر المحور:
وثمّة أبيات حوّرت وقرأت بسوء قصدٍ ثم صارت دليلاُ يستدل بها القادح على مذهبه، ومن ذلك قول أبي العلاء:
أُمـورٌ تَســتَخِفُّ بِها عقولُ وَما يَدري الفَتى لِمَنِ الثُبورُ
كِتابُ مُحَمَّدٍ وَكِتابُ موسى وَإِنجيــلُ اِبنِ مَريَـمَ وَالزَبــورُ
وإيراد البيتين على هاته الطريقة فيه تحوير وإخلال لقصد أبي العلاء، فيقع المعنى في نفس القارئ أن الكتب التي اشتمل عليها البيت الثاني هي المقصودة “بالأمور التي تستخف بها العقول” في البيت الأول. ولكن الأمر ليس كذلك. فقد عثر أمجد الطرابلسي على قطع من كتاب زجر النابح الذي يدافع فيه أبو العلاء عن نفسه، وقد وقف عليه بعض المتقدمين كابن العديم، فأخرج لنا أمجد تلك المقاطع التي يبلغ عددها بضعها وثمانين قطعة، في كل قطعة يرد أبو العلاء على بعض خصومه التهم التي قيلت فيه، ومنها ما ذكره عن هذين البيتين وأنهما ليسا على الوصل، وإنما القطع بين الأول والثاني، ووصل الثاني بالثالث، فتكون صورته على ما يلي:
أُمـورٌ تَســتَخِفُّ بِها حُــلـومٌ وَما يَدري الفَتى لِمَنِ الثُبورُ
كِتابُ مُحَمَّدٍ وَكِتابُ موسى وَإِنجيــلُ اِبنِ مَريَـمَ وَالزَبــورُ
نَهَت أُمَمــاً فَما قَبِلَت وَبارَت نَصيحَتُــها فَكُلُّ القَـومِ بــورُ
فبيت المطلع بيت منفصل لا علاقة له بما بعده، ثم يتصل البيت الثاني بالثالث بما بعدها، وفي هذا رفع للإشكال، وفهم للأبيات على قصد قائلها.
ومثله البيتان المشهوران:
تَناقُضٌ ما لنا إِلّا السُـــكوتُ لَهُ وَأَن نَعــوذَ بِمَولانا مِنَ النــــارِ
يَدٌ بِخَمسِ مِئينَ عَسجَدٍ فُدِيَت ما بالُها قُطِعَت في رُبعِ دينار
فساق القوم هذا البيت على أنه اعتراضٌ على حد السرقة والتشريع الإلهي، حتى قال ياقوت معلقًا عليه: كان المعري حمارًا لا يفقه شيئًا! والأمر أهون من هذا، وقد تقدم معنا ما ذكره الذهبي من أن المعري إنما أراد به صياغة كلام الفقهاء عن العلل التعبديّة التي لا مُدخلية للعقل فيها، فيستحيل على العقل إدراك حكمتها، ولسنا نناقش أبا العلاء في قصده هنا وقد صرّح بقصده من البيتين في ما رواه الذهبي وفي كتابه زجر النابح، وإن كنا نناقشه في تمثيله بحد السرقة على العلة التعبدية فعلتها مُدركة لدى كثير. وعلى كل حال فقصد الرجل لم ينصرف إلى الاعتراض والهزء من الشريعة، كيف وهو يستعيذ بالله من النار، ويقضي أنه ليس لنا في هذا المقام مقالٌ لأنه شرع إلهي.
الشعر المؤول:
وأما الضرب الأخير مما يهولك لفظه فكثير في شعره وهو يحتمل التأويل ويُنظر فيه إلى واقعه ومقاومته لهيمنة التقليد وغلبته على العقل، وفي اللزوميات من الإشارات الخفية وشبه الخفيّة إلى انحراف الديانات لغلبة التقليد عليها وسيادة الكهنوت، ولو ينشط دارسٌ للأديان وفلسفتها في استخلاص مذهب الشيخ في قراءة الأديان وتاريخها لخرج ببحث في غاية الطرافة. ومن شعره هذا قوله الذي يلاقيه الكثير بالاستبشاع:
هَفَتِ الحَنيفَةُ وَالنَصارى ما اِهتَدَت وَيَهودُ حارَت وَالمَجوسُ مُضَلَّلَه
اِثنـــانِ أَهـــلُ الأَرضِ ذو عَقــلٍ بِـلا ديــنٍ وَآخَــــرُ دَيِّـــنٌ لا عَقـلَ لَهُ
ومتى حملته على ما قاساه الشيخ في عصره من ظهور الباطنية المنتسبة إلى الدين، لأخذك الطرب للبيت أخذًا شديدًا وهو يصوّر لك حالًا بائسة لما انتهت إليه دعوة الفاطميين في العالم الإسلامي، فصار المتدين على مذهبهم لا عقل له، إذ العبرة بما يقوله الإمام، وصار من يريد أن يحفظ على نفسه عقله ينبذ الدين وراء ظهر حين تشكّل له في تلك الصورة القاتمة. فاستصحب هذا المعنى يتضح لك أمثال هذه:
سَأَتبَعُ مَن يَدعو إِلى الخَيرِ جاهِداً وَأَرحَلُ عَنها ما إِمامي سِوى عَقلي
وقوله:
وَيَنفُرُ عَقلي مُغضَباً إِن تَرَكتُهُ سُدىً وَاِتَّبَعتُ الشافِعيّ وَمالِكا
لقد سار أبو العلاء سيرةُ حميدة، وإن كان يغلب عليه التشاؤم ولكنه ما مرق من الإسلام، ولا تخفف من شرائعه، كيف وهو الذي يصوم الدهر عدا العيدين فبأي شريعة سار غير شريعة أبي القاسم؟، ويديم صلاته المكتوبة عليه، ويتوفر على التسبيح والتمجيد لرب العالمين سائر وقته، ويؤمن بالمعاد والحساب، وكل ذلك في شعره لا يخفى إلا على متعامٍ لا يحب ذلك الأعمى. ومتى تأمل الباحث حجة ابن العديم في أن الذين وقعوا في الشيخ لم يعايشوه ولا خالطوه، وأن من قاربه وعاش معه شهد له بحسن الديانة وحميد السيرة وجد في ذلك استدلالا بديعًا، فقد كتب عنه الثقات ودرسوا عليه ونهلوا من علمه ولم يثلبوه بمثلبة، وهذه كُتب أبي العلاء وأشعاره بين أيدينا ما كان يكتبها إلا القضاة من أبناء أخيه وذوو الديانة من أهل المعرة. فمتى وجدت في تاريخ الإسلام قضاة المسلمين يكتبون أمالي الملاحدة والزنادقة ورِقاقِ الدين؟!
رحم الله أبا العلاء وجمعنا به في عليين، وجعل دفاعنا عنه ذباً عن عرض مسلم وعملاً صالحاً ننتفع به يوم المعاد.